وَكَانَ قَدْ طَلَّقَ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ وَالصُّلْحَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أَلَّا يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا. وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعُرْضَةُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُعَرِّضِ لِفِعْلٍ فِي غَرَضٍ، فَالْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِأَنْ تَحْلِفُوا بِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنِ الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْأَيْمَانُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهِيَ الْأَقْسَامُ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعُرْضَةٍ، وأَنْ تَبَرُّوا مَفْعُولُ الْأَيْمَانِ، بِتَقْدِيرِ لَا مَحْذُوفَةٌ بَعْدَ (أَنْ) وَالتَّقْدِيرُ أَلَّا تَبَرُّوا، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: ١٧٦] وَهُوَ كَثِيرٌ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَهْيًا عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَاتِ لِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَهَذَا النَّهْي يسلتزم: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ. أَوْ مَعْنَاهُ: لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِلْحَلِفِ، كَمَا قُلْنَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِتَكُونُوا أَبْرَارًا أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ، وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، قَالَ مَالِكٌ «بَلَغَنِي أَنَّهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَهْيًا عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْحَلِفِ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْحَلِفِ. تُعَرِّضُ الْحَالِفَ لِلْحِنْثِ. وَكَانَتْ كَثْرَةُ الْأَيْمَانِ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فِي جُمْلَةِ الْعَوَائِدِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَنَعْرِ الْحُمْقِ، فَنَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ تَمَدَّحُوا بِقِلَّةِ الْأَيْمَانِ قَالَ كُثَيِّرٌ:
قَلِيلُ الْأَلَايِي حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْضَةُ مُسْتَعَارًا لِمَا يَكْثُرُ الْحُلُولُ حَوْلَهُ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ كَالشَّيْءِ الْمُعَرَّضِ لِلْقَاصِدِينَ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُفْهِمُ الْإِذْنَ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ
لَازِمُهُ، وَهُوَ الْوَعْدُ عَلَى الِامْتِثَالِ، عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَالْعُذْرُ فِي الْحِنْثِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ وَهُوَ أَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ وَسِيلَةً لِتَعْطِيلِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَإِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ تَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَصْدِيقِ الشَّهَادَةِ بِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْصِدًا جَلِيلًا يُشْكَرُ عَلَيْهِ الْحَالِفُ الطَّالِبُ لِلْبِرِّ لَكِنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لِقَطْعِ الْخَيْرَاتِ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ تَعَارَضَ أَمْرَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute