للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ نِظَامَ الْوُجُودِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِتَوَلُّدِ الشَّيْءِ مِنْ بَيْنِ شَيْئَيْنِ وَهُوَ

الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِازْدِوَاجِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّوَلُّدَ يَحْصُلُ فِي الذَّوَاتِ بِطَرِيقَةِ التَّوَلُّدِ الْمَعْرُوفَةِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: ٣] وَأَمَّا حُصُولُهُ فِي الْمَعَانِي، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِحُصُولِ الصِّفَةِ من بَين معنيي صِفَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ تَتَعَادَلَانِ فِي نَفْسٍ فَيَنْشَأُ عَنْ تَعَادُلِهِمَا صِفَةٌ ثَالِثَةٌ.

وَالْفَضَائِلُ جُعِلَتْ مُتَوَلَّدَةً مِنَ النَّقَائِصِ فَالشَّجَاعَةُ مِنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَالْكَرَمُ مِنَ السَّرَفِ وَالشُّحِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَوَلَّدَ مِنْ شَيْئَيْنِ يَكُونُ أَقَلَّ مِمَّا تُوُلِّدَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، إِذْ لَيْسَ كُلَّمَا وُجِدَ الصِّفَتَانِ حَصَلَ مِنْهُمَا تَوَلُّدُ صِفَةٍ ثَالِثَةٍ، بَلْ حَتَّى يَحْصُلَ التَّعَادُلُ وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَ تَيْنَكِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ وَذَلِكَ عَزِيزُ الْحُصُولِ وَلَا شَكَّ أَنْ هَاتِهِ النُّدْرَةَ قَضَتْ بِقِلَّةِ اعْتِيَادِ النُّفُوسِ هَاتِهِ الصِّفَاتِ، فَكَانَتْ صَعْبَةً عَلَيْهَا لِقِلَّةِ اعْتِيَادِهَا إِيَّاهَا.

وَوَرَاءَ ذَلِكَ فَاللَّهُ حَدَّدَ لِلنَّاسِ نِظَامًا لِاسْتِعْمَالِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ وَالضَّارَّةِ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَالتَّبِعَةُ فِي صُورَةِ اسْتِعْمَالِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَهَذَا النِّظَامُ كُلُّهُ تَهْيِئَةٌ لِمَرَاتِبِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْعَالَمِ الْأَبَدِيِّ عَالَمِ الْخُلُودِ وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ كَمَا

يُقَالُ: «الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ»

وَبِهَذَا تَكْمُلُ نَظَرِيَّةُ النَّقْضِ الَّذِي نَقَضَ بِهِ الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى شَيْخِهِ الْجِبَائِيِّ أَصْلَهُمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ فَيَكُونُ بَحْثُ الْأَشْعَرِيِّ نَقْضًا وَكَلَامُنَا هَذَا سَنَدًا وَانْقِلَابًا إِلَى اسْتِدْلَالٍ.

وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْجَمِيعِ، وَمَفْعُولَا يَعْلَمُ وتَعْلَمُونَ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا مَا قَبْلَهُ أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمُ الْعِلْمُ فَيَظُنُّونَ الْمُلَائِمَ نَافِعًا وَالْمُنَافِرَ ضَارًّا.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ أَنَّهُ الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ، وَأَنَّ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَنَا صِفَتُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا نُوقِنُ بِأَنَّ فِيهِ صِفَةً مُنَاسِبَةً لِحُكْمِ الشَّرْع فِيهِ فتطلبها بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ عَسَى أَنْ نُدْرِكَهَا، لِنُفَرِّعَ عَلَيْهَا وَنَقِيسَ وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا مَسَائِلُ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُجْرِي أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ.

[٢١٧]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٧]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.

مِنْ أَهَمِّ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا إِذَا صَادَفَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ إِذْ كَانَ مَحْجَرًا فِي الْعَرَبِ مِنْ عَهْدٍ