للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَوَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ إِذَا (شَبَّعَتْ) فَتْحَةَ نُونِ الْقُرْآنِ مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ بِأَنْ يَكُونَ مِصْرَاعًا مِنْ بَحْرِ الْكَامِلِ أَحَذَّ دَخَلَهُ الْإِضْمَار مرَّتَيْنِ.

[٥]

[سُورَة المزمل (٧٣) : آيَة ٥]

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)

تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: ٢] وَجُمْلَةِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً [المزمل: ٦] ، وَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِحِكْمَةِ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ بِأَنَّهَا تَهْيِئَةُ نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ شِدَّةَ الْوَحْيِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ

[الْقِيَامَة: ١٧] ، فَتِلْكَ مُنَاسَبَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ٢] فَهَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا قَالَ لَهُ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: ٤] أَعْقَبَ بِبَيَانِ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ.

وَالْقَوْلُ الثَّقِيلُ هُوَ الْقُرْآنُ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَيْهِ: إِبْلَاغُهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ.

وَحَقِيقَةُ الْإِلْقَاءِ: رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ وَطَرْحِهِ، وَيُقَالُ: شَيْءٌ لَقَى، أَيْ مَطْرُوحٌ، اسْتُعِيرَ الْإِلْقَاءُ لِلْإِبْلَاغِ دُفْعَةً عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ.

وَالثِّقَلُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْقَوْلُ ثِقَلٌ مَجَازِيٌّ لَا مَحَالَةَ، مُسْتَعَارٌ لِصُعُوبَةِ حِفْظِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ لَيْسَتْ مِنْ مُعْتَادِ مَا يَجُولُ فِي مَدَارِكِ قَوْمِهِ فَيَكُونُ حِفْظُ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَسِيرًا عَلَى الرَّسُولِ الْأُمِّيِّ تَنُوءُ الطَّاقَةُ عَنْ تَلَقِّيهِ.

وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أَنَّ ثِقَلَهُ مُتَعَلِّقٌ ابْتِدَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ وَهُوَ ثِقَلٌ مَجَازِيٌّ فِي جَمِيعِ اعْتِبَارَاتِهِ وَهُوَ ثَقِيلٌ صَعْبٌ تَلَقِّيهِ مِمَّنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثَقُلَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّدَ لَهُ جِلْدُهُ»

(أَيْ تَغَيَّرَ بِمِثْلِ الْقُشَعْرِيرَةِ)

وَقَالَت عَائِشَة: «رَأَتْهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَرْفَضُّ عَرَقًا»

. وَيُسْتَعَارُ ثِقَلُ الْقَوْلِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ وَافِرَةٍ يَحْتَاجُ الْعِلْمُ بِهَا لِدِقَّةِ النَّظَرِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ هَدْيِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «ثَقِيلًا لَيْسَ بِالْكَلَامِ السَّفْسَافِ» . وَحَسْبُكَ أَنَّهُ حَوَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ مَا لَا يَفِي الْعَقْلُ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ فَكَمْ غَاصَتْ فِيهِ أَفْهَامُ