للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّطُ عَلَى النَّفْسِ، وَنُفِيَ تَنْزِيلُهُ وَأُرِيدَ نَفْيُ وَجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَزَلَ أَيْ لَأَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُمِ النَّاسَ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اعْتِقَادٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَالتَّنْزِيلُ إِمَّا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى نصب الأدلّة عَلَيْهِم كَقَوْلِهِمْ: «نَزَلَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَعُقُولِ الْفُرْسِ وَأَيْدِي الصِّينِ» وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْوَحْيِ، أَوْ بِالْأَمَارَاتِ، كَانَ نَفْيُ تَنْزِيلِ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِشْرَاكِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ السُّلْطَانِ نَفْسِهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ:

لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ

وَقَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَأْوَى مَفْعَلٌ مِنْ أَوَى إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَالْمَثْوَى مَفْعَلٌ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ فَالنَّارُ مَصِيرُهُمْ وَمَقَرُّهُمْ وَالْمرَاد الْمُشْركُونَ.

[١٥٢]

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٢]

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمرَان: ١٥١] وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَإِظْهَارٌ لِاسْتِمْرَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرَمَزَ إِلَى الثِّقَةِ بِوَعْدِهِمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَبْيِينٍ لِسَبَبِ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ: تَطْمِينًا لَهُمْ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ وَمُمَاثِلِهِ السَّابِقِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ (التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ) وَلِيَتَوَسَّلَ