دَلِيلِ الْيَأْسِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ قَوْمًا هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ فَيَكْتَبَهُمْ ضُلَّالًا بِالْمَعَاصِي حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا عَمِلُوهُ مَعْصِيَةٌ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ جَمِيعِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ صَيَّرَهَا كَلَامًا جَامِعًا تَذْيِيلًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَوُقُوعُ إِنَّ فِي أَوَّلِهَا يُفِيدُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ. وَالتَّعْلِيلُ مَضْمُونٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ
أَنْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم الْحق.
[١١٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
تَذْيِيلٌ ثَانٍ فِي قُوَّةِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التَّوْبَة: ١١٥] ، وَلِذَلِكَ فُصِلَ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّ ثُبُوتَ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْعِلْمِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِبَعْضِ الْمُتَمَلَّكَاتِ يُفْضِي إِلَى إِضَاعَةِ شُؤُونِهَا.
فَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) مَعَ عَدَمِ الشَّكِّ فِي مَضْمُونِ الْخَبَرِ يُعَيِّنُ أَنَّ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ فَتَكُونُ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ وَالتَّعْلِيلِ.
وَمَعْنَى الْمُلْكِ: التَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: ٤] .
وَزِيَادَةُ جُمْلَتَيْ: يُحْيِي وَيُمِيتُ لِتَصْوِيرِ مَعْنَى الْمُلْكِ فِي أَتَمِّ مَظَاهِرِهِ الْمَحْسُوسَةِ لِلنَّاسِ الْمُسَلَّمِ بَيْنَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ دَفْعَ ذَلِكَ وَلَا تَأْخِيرَهُ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لِتَأْيِيدِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّهُمْ فَهُوَ نَصِيرٌ لَهُمْ، وَلِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ الْكُفَّارَ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَاضِبٌ عَلَيْهِمْ فَهُوَ لَا يَنْصُرُهُمْ. وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِغَرَضِ الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُمْ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَلِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ