للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاحِدٌ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْفُسِهِمْ وَبِآبَائِهِمْ إِذْ أَوْجَدَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَدَمِ ثُمَّ أَعْدَمَ آبَاءَهُمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ أَحْوَالَ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ وَأَيْسَرُ اسْتِدْلَالًا عَلَى خَالِقِهِمْ، فَالِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ يَمْتَازُ بِالْعُمُومِ، وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي يَمْتَازُ بِالْقُرْبِ مِنَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقَلَاء توهموا السَّمَوَات قَدِيمَةً وَاجِبَةَ الْوُجُودِ، فَأَمَّا آبَاؤُهُمْ فَكَثِيرٌ مِنَ السَّامِعِينَ شَهِدُوا انْعِدَامَ كَثِيرٍ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِدَمَ الدَّالِّ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَشَمِلَ عُمُومُ الْآبَاءَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ وَبِوَصْفِهِ بِالْأَوَّلِينَ بَعْضَ مَنْ يَزْعُمُونَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْآلِهَةِ مِثْلَ الْفَرَاعِنَةِ الْقُدَمَاءِ الْمُلَقَّبِينَ عِنْدَهُمْ بِأَبْنَاءِ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ مَعْدُودَةٌ فِي الْآلِهَةِ وَيُمَثِّلُهَا الصَّنَمُ «آمُونُ رَعْ» .

وَالرَّبُّ: الْخَالِقُ وَالسَّيِّدُ بِمُوجب الخالقية.

[٢٧]

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٧]

قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)

احْتَدَّ فِرْعَوْنُ لَمَّا ذَكَرَ مُوسَى مَا يَشْمَلُ آبَاءَهُ الْمُقَدَّسِينَ بِذِكْرٍ يُخْرِجُهُمْ مِنْ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مختل الْإِدْرَاك، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِخَالِقِيَّتِهِمْ وَخَالِقِيَّةِ آبَائِهِمْ عَبَثٌ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ يَرَوْنَ تَكْوِينَ الْآدَمِيِّ بِالتَّوَلُّدِ وَهُمْ لَا يَحْسَبُونَ التَّكْوِينَ الدَّالَّ عَلَى الْخَالِقِيَّةِ إِلَّا التَّكْوِينَ بِالطَّفْرَةِ دُونَ التَّدْرِيجِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَةَ لَا تَتَفَطَّنُ إِلَى دَقَائِقِهَا الْعُقُولُ السَّاذَجَةُ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ تَكْوِينَ الْفَرْخِ مِنَ الْبَيْضَةِ أَقَلَّ مِنْ تَكْوِينِ الرَّعْدِ، وَأَنَّ تَكْوِينَ دُودَةِ الْقَزِّ أَدَلُّ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ تَكْوِينِ الْآدَمِيَّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ زَعَمَ أَنَّ ادِّعَاءَ دَلَالَةِ تَكْوِينِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَدَلَالَةِ فَنَاءِ الْآبَاءِ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ رَبِّ الْأَبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ ضَرْبًا مِنَ الْجُنُونِ إِذْ هُوَ تَكْوِينٌ لَمْ يَشْهَدُوا دَقَائِقَهُ، وَالْمَعْرُوفُ الْمَأْلُوفُ وِلَادَةُ الْأَجِنَّةِ وَمَوْتُ الْأَمْوَاتِ.

وَأَكَّدَ كَلَامَهُ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ حَالَةَ مُوسَى لَا تُؤْذِنُ بِجُنُونِهِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْمَجْنُونِ مُعَرَّضًا لِلشَّكِّ فَلِذَلِكَ أَكَّدَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِ مُوسَى مَا عَسَى أَنْ لَا يَعْلَمَهُ السَّامِعُونَ.