للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَيَقُولُ فِيهِ إِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي فِعْلِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَهِمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْآيَةِ عَدَمَ فَرْضِيَّةِ السَّعْيِ، وَلَقَدْ أَصَابَ فَهْمًا مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، غَيْرَ أَنَّ هُنَا سَبَبًا دَعَا لِلتَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ السَّاعِي وَهُوَ ظَنُّ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ فِي ذَلِكَ إِثْمًا، فَصَارَ الدَّاعِي لِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ السَّاعِي هُوَ مُقَابَلَةَ الظَّنِّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ قَصْدِ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ اللَّاحِقَةِ بِنُزُولِ الْآيَةِ أَوِ السَّابِقَةِ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَ عُرْوَةُ فِيمَا رَوَاهُ «وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ» يُرِيدُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بالسنن وأسبابا النُّزُولِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ جَهْلَهُ بِاللُّغَةِ لِأَنَّ اللُّغَةَ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِ مَفَادَاتِهَا الْحَدِيثُ وَالْكَبِيرُ، وَلِهَذَا أَيْضًا قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ «بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي» تُرِيدُ ذَمَّ كَلَامِهِ مِنْ جِهَةِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ مِنْ سُوءِ فَهْمِ مَقْصِدِ الْقُرْآنِ لَوْ دَامَ عَلَى فَهْمِهِ ذَلِكَ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الصَّرَاحَةِ فِي قَوْلِ الْحَقِّ، فَصَارَ ظَاهِرُ الْآيَةِ بِحَسَبَ الْمُتَعَارَفِ مُؤَوَّلًا بِمَعْرِفَةِ سَبَبِ التَّصَدِّي لِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ الطَّائِفِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

فَالْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ فِي الْآيَةِ جُنَاحٌ عَرَضَ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة فِي وَقت نَصْبِ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ لِذَاتِ السَّعْيِ، فَلَمَّا زَالَ سَبَبُهُ زَالَ الْجُنَاحُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: ١٢٨] فَنَفَى الْجُنَاحَ عَنِ التَّصَالُحِ وَأَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ فَالْجُنَاحُ الْمَنْفِيُّ عَنِ الصُّلْحِ مَا عَرَضَ قَبْلَهُ مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: ١٨٢] مَعَ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ إِثْمٌ عَارِضٌ.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ

اللَّهِ فَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفْتِ الْمَذَاهِبُ فِي حُكْمِ السَّعْيِ (١) فَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَقَدِ اهْتَمَّ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَادَرَ إِلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» و «الْمُوَطَّأ» فَلَمَّا تَرَدَّدَ فِعْلُهُ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ وَالْفَرْضِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ فَرْضُ قَضَاءٍ لَحِقَ الِاحْتِيَاطَ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ بِسَائِرِ الْبَدَنِ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ فَيُقَاسُ عَلَى الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْإِحْرَامِ، بِخِلَافِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُمَا فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ صَلَاةٌ، وَبِخِلَافِ تَرْكِ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ، وَبِخِلَافِ رَمْيِ الْجِمَارِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ بَعُضْوٍ وَهُوَ الْيَدُ. وَقَوْلِي لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ


(١) انْظُر «فتح الْقَدِير» (٢/ ١٥٧، ١٥٨) ، «الْبَدَائِع» (٢/ ١٣٣، ١٤٣) ، «رد الْمُخْتَار» (٣/ ٢٠٣) ، «شرح الرسَالَة» (١/ ٤٧١) ، «الشَّرْح الْكَبِير» (٢/ ٣٤) ، «شرح الْمِنْهَاج» (٢/ ١٢٦، ١٢٧) ، «الْمَجْمُوع» (٨/ ٧١، ٧٢، ٧٣، ٧٥) ، «الْمُغنِي» ٣/ ٣٨٨، ٣٨٩) ، «الْفُرُوع» (٣/ ٥١٧) «كشاف القناع» (٥/ ٢١) .