إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: ١٠١] الْآيَةَ وَمَا قَابَلَ بِهِ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، ثُمَّ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ وَفَائِهِمْ بِوَصَايَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ سَدَنَةُ بَيْتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة:
١١٤] الْآيَاتِ، فَنَوَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ وَبِالْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالِهَا وَشَعَائِرِهَا وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦] (يُرِيدُ عُلَمَاءَهُمْ) ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِتَكْمِلَةِ فَضَائِلِ الْكَعْبَةِ وَشَعَائِرِهَا، فَلَمَّا تَمَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا رَمَاهُمْ بِهِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْخَطَابَةِ هِيَ إِيفَاءُ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ حَقَّهُ وَتَقْصِيرُ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى مَا يُهِمُّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ اسْتِطْرَادٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ تَخَلَّلَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ.
فَجُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِلَخِ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ يَعْرِفُ مِنْهُ السَّامِعُ تَفْصِيلَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ إجماله، والتوكيد بإنّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَالْكَتْمُ وَالْكِتْمَانُ عَدَمُ الْإِخْبَارِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ مِنْ حَادِثٍ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ وَمِنْهُ كَتْمُ السِّرِّ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ غَيْرَكَ وَتَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُخْبِرُهُ غَيْرَهُ.
وَعَبَّرَ فِي: يَكْتُمُونَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ كَاتِمُونَ لِلْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمَعْنِيَ بِهِ قَوْمٌ مَضَوْا مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْمَاضِينَ وَالْآتِينَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي ذَلِك.
وَالْمرَاد بِمَا أَنْزَلْنَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ مِنَ الدَّلَائِلِ والإرشاد، وَالْمرَاد بِالْكتاب التَّوْرَاةُ.
وَالْبَيِّنَاتُ جُمَعُ بَيِّنَةٍ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَشَمَلَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَيَشْمَلُ الْأَدِلَّةَ الْمُرْشِدَةَ إِلَى الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بدلائل صدق لَا سِيمَا الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ فِي إِخْوَةِ إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ ظَهَرَتْ بِعْثَتُهُ بَيْنَهُمْ وَانْتَشَرَتْ مِنْهُمْ، وَالْهُدَى هُوَ مَا بِهِ الْهُدَى أَيِ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ فَيَشْمَلُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute