بَاتَتْ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ وَاحِدَةً ... بِذِي الْمَجَازِ تُرَاعِي مَنْزِلًا زِيَمَا
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ هُنَالِكَ حَاجًّا فَقَالَ:
كَادَتْ تُسَاقِطُنِي رَحْلِي وَمِيثَرَتِي
فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.
الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [الْبَقَرَة: ١٩٧] الْآيَةَ، عُطِفَ الْأَمْرُ عَلَى النَّهْيِ، وَقَوْلُهُ: (إِذَا أَفَضْتُمْ) شَرْطٌ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) .
وَالْإِفَاضَةُ هُنَا: الْخُرُوجُ بِسُرْعَةٍ وَأَصْلُهَا مِنْ فَاضَ الْمَاءُ إِذَا كَثُرَ عَلَى مَا يَحْوِيهِ فَبَرَزَ مِنْهُ وَسَالَ وَلذَلِك سموا إِحَالَة الْقِدَاحِ فِي الْمَيْسِرِ إِفَاضَةً وَالْمُجِيلَ مُفِيضًا، لِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْقِدَاحَ مِنَ الرَّبَابَةِ بِقُوَّةٍ وَسُرْعَةٍ أَيْ بِدُونِ تَخَيُّرٍ وَلَا جَسٍّ لِيَنْظُرَ الْقَدَحَ الَّذِي يَخْرُجُ، وَسَمَّوُا الْخُرُوجَ مِنْ عَرَفَةَ إِفَاضَةً لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَتَكُونُ لِخُرُوجِهِمْ شِدَّةٌ، وَالْإِفَاضَةُ أُطْلِقَتْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ عَرَفَةَ وَالْخُرُوجِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ.
وَالْعَرَبُ كَانُوا يُسَمُّونَ الْخُرُوجَ مِنْ عَرَفَةَ الدَّفْعَ، وَيُسَمُّونَ الْخُرُوجَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِفَاضَةً، وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ مَجَازٌ لِأَنَّ الدَّفْعَ هُوَ إِبْعَادُ الْجِسْمِ بِقُوَّةٍ، وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْإِفَاضَةِ عَلَى الْخَرُوجَيْنِ لِمَا فِي أَفَاضَ مِنْ قُرْبِ الْمُشَابَهَةِ مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الْكَثْرَةِ دُونَ الشِّدَّةِ.
وَلِأَنَّ فِي تَجَنُّبِ دَفَعْتُمْ تَجَنُّبًا لِتَوَهُّمِ السَّامِعِينَ أَنَّ السَّيْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَفْعِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِي دَفْعِهِمْ ضَوْضَاءَ وَجَلَبَةً وَسُرْعَةَ سَيْرٍ فَنَهَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
وَقَالَ: «لَيْسَ الْبِرُّ بِالْإِيضَاعِ فَإِذَا أَفَضْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ» .
وَ (عَرَفَاتٌ) اسْمُ وَادٍ وَيُقَالُ: بَطْنٌ وَهُوَ مَسِيلٌ مُتَّسَعٌ تَنْحَدِرُ إِلَيْهِ مِيَاهُ جِبَالٍ تُحِيطُ بِهِ تُعْرَفُ بِجِبَالِ عَرَفَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ جُعِلَ عَرَفَاتٌ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ الْوَادِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ، وَيُقَالُ لَهُ: عَرَفَةُ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُ النَّاسِ يَوْمُ عَرَفَةَ مُوَلَّدٌ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مَحْضٍ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: يُقَالُ عَرَفَاتٌ وَعَرَفَةُ، وَقَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثِ «يَوْمَ عَرَفَةَ» ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُقَالُ: يَوْمُ عَرَفَاتٍ.
وَفِي وَسَطِ وَادِي عَرَفَةَ جُبَيْلٌ يَقِفُ عَلَيْهِ نَاسٌ مِمَّنْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَيَخْطُبُ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ بِالنَّاسِ يَوْمَ تَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الظُّهْرِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ