اضْطِرَابِهَا وَتَزَلْزُلِهَا، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ بِأَكْثَرِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣١] .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ذَاتَ قَرَارٍ، أَيْ قَرَارٍ لَكُمْ، أَيْ جَعَلَهَا مُسْتَقَرًّا لَكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] أَيْ خَلَقَهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ تُلَائِمُ الِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا يَابِسَةً غَيْرَ سَائِلَةٍ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَطْحَ الْأَرْضِ سَيَّالًا كَالزِّئْبَقِ أَوْ كَالْعَجَلِ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ سَائِخًا فِيهَا يَطْفُو تَارَةً وَيَسِيخُ أُخْرَى فَلَا يَكَادُ يَبْقَى عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ كَوَسَطِ سَبْخَةِ (التاكمرت) (١) الْمُسَمَّاةِ: «شَطَّ الْجَرِيدِ» الْفَاصِلَ بَين «نفطة» و «نفزاوة» مِنَ الْجَنُوبِ التُّونُسِيِّ فَإِنَّ فِيهَا مَسَافَاتٍ إِذَا مَشَتْ فِيهَا الْقَوَافِلُ سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ فَلَا يُعْثَرُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَسِيرُ فِيهَا الْقَوَافِلُ إِلَّا بِهُدَاةٍ عَارِفِينَ بِمَسَالِكِ السَّيْرِ فِي عَلَامَاتٍ مَنْصُوبَةٍ، فَكَانَتْ خِلْقَةُ الْأَرْضِ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى دَقِيقِ حِكْمَتِهِ وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْمَعْمُورِ بِهِمَا وَجْهُ الْأَرْضِ.
وَالْبِنَاءُ: مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلِاتِّقَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالدَّوَابِّ.
وَوَصْفُ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢] .
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
لَا جَرَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ مَا يَحُفُّ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْعَوَالِمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُلَائِمَةٍ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَرَاحَتِهِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مُلَائِمَةٍ لَهُ مُدَّةَ بَقَاءِ نَوْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَتَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ التَّذْكِيرَ بِمَا مَهَّدَ لَهُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ خلقه خلقا مُسْتَوْفِيًا مَصْلَحَتَهُ وَرَاحَتَهُ.
(١) التاكمرت كلمة بلغَة البربر بِمَعْنى السبخة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute