وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ بِفِعْلِ صَوَّرَكُمْ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ خَلْقٌ عَلَى صُورَةٍ مُرَادَةٍ تُشْعِرُ بِالْعِنَايَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] فَاقْتَضَى حُسْنَ الصُّوَرِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ فِي جَانِبِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ فِعْلِ الْجَعْلِ إِلَى فِعْلِ التَّصْوِيرِ بِقَوْلِهِ:
وَصَوَّرَكُمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ [الانفطار:
٧، ٨] ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ التَّصْوِيرِ مِنَ الْإِتْقَانِ وَالتَّحْسِينِ بِقَوْلِهِ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَدَالَّةٌ عَلَى التَّعْقِيبِ أَيْ أَوْجَدَ صُورَةَ الْإِنْسَانِ فَجَاءَتْ حَسَنَةً.
وَعَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ مِنَّةً أُخْرَى فِيهَا عِبْرَةٌ، أَيْ خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ثُمَّ أَمَدَّكُمْ بِأَحْسَنِ رِزْقٍ، فَجَمَعَ لَكُمْ بَيْنَ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ شَهْوَةً فِي ظَاهِرِهِ وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةِ إِمْدَادِ الْجِسْمِ بِوَسَائِلِ تَجْدِيدِ قُوَاهُ الْحَيَوِيَّةِ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ:
وَرَزَقَكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى نِعْمَةِ طُولِ الْوُجُودِ فَلَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَضْمَحِلُّ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ حُسْنِ الْإِيجَادِ وَبَيْنَ حُسْنِ الْإِمْدَادِ فَجَعَلَ مَا بِهِ مَدَدُ الْحَيَاةِ وَهُوَ الرِّزْقُ مِنْ أَحْسَنِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى خِلَافِ رِزْقِ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ مَوْقِعُ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ كَمَوْقِعِ نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَإِعَادَةُ هَذَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْقِيفِ عَلَى خَطَلِ رَأْيِهِمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غَافِر: ٦٢] ، وَقَرِينَةِ قَوْلِهِ هُنَا: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: ٦٥] .
وَفُرِّعَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ بَدَائِعِ صُنْعِهِ وَجَزِيلِ منّه. أَن أنش ئ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا يُفِيدُ اتِّصَافَهُ بِعَظِيمِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ، وَفِعْلُ تَبَارَكَ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي قُوَّةِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، وَالْبَرَكَةُ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى تَزَايُدِ الْخَيْرِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعَ فِعْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute