للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَهُمَا اللَّامُ وَ (قَدْ) مَعَ كَوْنِ مَضْمُونِهَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْإِنْكَارُ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَلِأَنَّ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مَا يُنْكِرُهُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ مَا يَجْعَلُ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مُنَزَّلِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَنْفَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الْمَجِيءِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ مُرَادًا بِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى اقْتِرَابِ الرَّحِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ الْإِخْبَارُ بِمَجِيئِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ مُنْذُ أَعْوَامٍ طَوِيلَةٍ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ انْتِهَائِهِ، وَهُوَ تَسْجِيلٌ مِنْهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِيدَاعٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. عَلَى أَنَّ آيَاتٍ أُخْرَى خُوطِبَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَنَحْوُهُمْ فَأُكِّدَتْ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: ١٥] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاء: ١٧٤] فَمَا زِيدَتِ الْجُمْلَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُؤَكِّدَةً إِلَّا

لِغَرَضٍ أَهَمَّ مِنْ إِزَالَةِ الْإِنْكَارِ.

وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْخِطَابِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. شُبِّهَ تَوَجُّهُهُ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَرَقَّبُونَهُ بِمَجِيءِ الْوَافِدِ إِلَى النَّاسِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَهِيَ الذَّاتُ. وَيُضَافُ النَّفْسُ إِلَى الضَّمِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى قَبِيلَةٍ مُعَادُ الضَّمِيرِ، أَيْ هُوَ مَعْدُودٌ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِمْ وَلَيْسَ عِدَادُهُ فِيهِمْ بِحِلْفٍ أَوْ وَلَاءٍ أَوْ إِلْصَاقٍ.

يُقَالُ: هُوَ قُرَيْشِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيُقَالُ: الْقُرَيْشِيُّ مَوْلَاهُمْ أَوْ حَلِيفُهُمْ، فَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ صَمِيمِ نَسَبِكُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ لِأَنَّ النَّازِلَ بَيْنَهُمُ الْقُرْآنُ يَوْمَئِذٍ لَا يَعُدُّونَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَالَفَهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ مِثْلَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ، وَفِيهِ امْتِنَانٌ عَلَى الْعَرَبِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَضِيلَتِهِمْ، وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَرْكِ مُنَاوَأَتِهِ وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمُ الِافْتِخَارُ بِهِ وَالِالْتِفَافُ حَوْلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] أَيْ يَبْقَى مِنْهُ لَكُمْ ذِكْرٌ حَسَنٌ.