كَيْلَا يَقَعُوا فِي مِثْلِهَا وَلِيَسْتَغْفِرُوا لِأَسْلَافِهِمْ عَنْهَا.
وَالْمِيثَاقُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ كَالْعَهْدِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُرَادٌ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَوَعَدَهُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا وَقَدْ سَمَّتْهُ كُتُبُهُمْ عَهْدًا كَمَا قَدَّمْنَا وَهُوَ إِلَى الْآنِ كَذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالطُّورُ عَلَمٌ عَلَى جَبَلٍ بِبَرِّيَّةِ سِينَا، وَيُقَالُ إِنَّ الطُّورَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْجِبَالِ فِي لُغَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْعَجَّاجِ:
دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ ... تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ
فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي الْعِبْرِيَّةِ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْكَنْعَانِيِّينَ يَذْكُرُونَهُ فَيَقُولُونَ الطُّورَ يَعْنُونَ الْجَبَلَ كَلِمَةٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ أَنْ عَرَفُوهَا فَحَسِبُوهَا عَلَمًا لَهُ فَسَمَّوْهُ الطُّورَ.
وَقَوْلُهُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ مَقُولُ قَوْلٍ، مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَائِلِينَ لَهُمْ خُذُوا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِ. وَالْأَخْذُ مَجَازٌ عَنِ التَّلَقِّي وَالتَّفَهُّمِ. وَالْقُوَّةُ مَجَازٌ فِي الْإِيعَاءِ وَإِتْقَانِ التَّلَقِّي وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: ١٢] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مَجَازًا عَنِ الِامْتِثَالِ أَيِ اذْكُرُوهُ عِنْدَ عَزْمِكُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ حَتَّى تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ مَا فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّفَهُّمُ بِدَلِيلِ حَرْفِ (فِي) الْمُؤْذِنِ بِالظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَيِ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا آتَاهُمْ مَا أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ قَوَاعِدُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ بِدُونِ عَطْفٍ.
وَالرَّجَاءُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَقْرِيبِ سَبَبِ التَّقْوَى بِحَضِّهِمْ عَلَى الْأَخْذِ بِقُوَّةٍ، وَتَعَهُّدِ التَّذَكُّرِ لِمَا فِيهِ، فَذَلِكَ التَّقْرِيبُ وَالتَّبْيِينُ شَبِيهٌ بِرَجَاءِ الرَّاجِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (لَعَلَّ) قَرِينَةَ اسْتِعَارَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ اللَّهِ حِينَ هَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ بِحَالِ الرَّاجِي تَقْوَاهُمْ وَعَلَى هَذَا مَحْمَلُ مَوَارِدِ كَلِمَةِ (لَعَلَّ) فِي الْكَلَامِ الْمُسْنَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: ٢١] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي مُدَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى وَأَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مِنَ الْخَاسِرِينَ الْهَالِكِينَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِيهَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْخَوْضِ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ الْإِلْجَائِيِّ وَمُنَافَاةِ الْإِلْجَاءِ لِلتَّكْلِيفُُِ