للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: ٢١١] اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ خُلُقِهِمُ الْعَجِيبِ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَشُعَبِهِ الَّتِي سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ: رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُطِعَ عَنِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الِاسْتِطْرَادُ بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْبَقَرَة: ٢١١] الْآيَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ مُعْلِنٍ وَمُنَافِقٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا هُمُ الْمُرَادَ لَقِيلَ زُيِّنَ لَهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يُنَاسِبُ حَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَالتَّزْيِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا أَوِ الِاحْتِجَاجُ لِكَوْنِهِ زَيْنًا، لِأَنَّ التَّفْعِيلَ يَأْتِي لِلْجَعْلِ وَيَأْتِي لِلنِّسْبَةِ كَالتَّعْلِيمِ وَكَالتَّفْسِيقِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَالزَّيْنُ شِدَّةُ الْحُسْنِ.

وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا مُرَادٌ بِهَا مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْمُلَائِمَاتِ وَالذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ مَشْهُورٌ لِلْحَيَاةِ وَمَا يُرَادِفُهَا فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا» أَيْ إِلَى مَنَافِعِ دُنْيَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ اشْتُهِرَ حَذْفُهُ.

وَمَعْنَى تَزْيِينِ الْحَيَاةِ لَهُمْ، إِمَّا أَنَّ مَا خُلِقَ زَيْنًا فِي الدُّنْيَا قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَاشْتَدَّ تَوَغُّلُهُمْ فِي اسْتِحْسَانِهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الزَّيْنَةَ هِيَ حَسَنَةٌ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا يَخْتَصُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِجَعْلِهَا لَهُمْ زَيْنَةً كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّ اللَّامَ تُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، وَإِمَّا تَرْوِيجُ تَزْيِينِهَا فِي نُفُوسِهِمْ بِدَعْوَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ تُحَسِّنُ مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ كَالْأَقْيِسَةِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْخَوَاطِرِ الشَّهْوِيَّةِ.

وَالْمُزَيِّنُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الزِّينَةِ، وَالْمُزَيِّنُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ الشَّيْطَانُ وَدُعَاتُهُ.

وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ لِأَنَّ الْمُزَيَّنَ لَهُمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا خَلْقُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَسَنَةً بَدِيعَةً كَمَحَاسِنِ الذَّوَاتِ وَالْمَنَاظِرِ، وَمِنْهَا إِلْقَاءُ حُسْنِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ وَهِيَ غَيْرُ حَسَنَةٍ كَقَتْلِ النَّفْسِ، وَمِنْهَا إِعْرَاضُهُمْ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الْأُمُورِ النَّافِعَةِ حَتَّى انْحَصَرَتْ هِمَمُهُمْ فِي التَّوَغُّلِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَحْتَهَا الْعَارُ لَوْ كَانَ بَادِيًا، وَمِنْهَا ارْتِيَاضُهُمْ عَلَى الِانْكِبَابِ عَلَى اللَّذَّاتِ دُونَ الْفِكْرِ فِي الْمَصَالِحِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهَا أَنْ يُعَدَّ فَاعِلًا لِلتَّزْيِينِ حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ طُوِيَ ذِكْرُ هَذَا الْفَاعِلِ تَجَنُّبًا لِلْإِطَالَةِ.