للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْفَاعِلِ لِدِقَّتِهِ، إِذِ الْمُزَيِّنُ لَهُمُ الدُّنْيَا أَمْرٌ خَفِيٌّ فَيَحْتَاجُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى شَرْحٍ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَهُوَ مَا اكْتَسَبَتْهُ نُفُوسُهُمْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِاللَّذَّاتِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِهِ التَّنَافُسُ أَوِ التَّقْلِيدُ حَتَّى عَمُوا عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُخَالِطَةِ لِلَّذَّاتِ أَوْ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُخْتَصَّةِ الْمُغَشَّاةِ بِتَحْسِينِ الْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهِ ضَعْفُ الْعَزَائِمِ النَّاشِئُ عَنِ اعْتِيَادِ الِاسْتِرْسَالِ فِي جَلْبِ الْمُلَائِمَاتِ دُونَ كَبْحٍ لِأَزِمَّةِ الشَّهَوَاتِ، وَلِأَجْلِ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُونَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ رَبَّتِ الْأَدْيَانُ فِيهِمْ عَزِيمَةَ مُقَاوَمَةِ دَعْوَةِ النُّفُوسِ الذَّمِيمَةِ بِتَعْرِيفِهِمْ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّذَّاتُ مِنَ الْمَذَمَّاتِ وَبِأَمْرِهِمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ ضُرٌّ عَاجِلٌ أَوْ آجِلٌ حَتَّى يُجَرِّدُوهَا عَنْهَا إِنْ أَرَادُوا تَنَاوُلَهَا وَيَنْبِذُوا مَا هُوَ ذَمِيمَةٌ مَحْضَةٌ، وَرَاضَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَشَائِرِ وَالزَّوَاجِرِ حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ مَلَكَةٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُزَيَّنِ الدُّنْيَا لَهُمْ، لِأَنَّ زِينَتَهَا عِنْدَهُمْ ومعرضة لِلْحُكْمِ عَلَيْهَا بِالْإِثْبَاتِ تَارَةً وَبِالنَّفْيِ أُخْرَى، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْأَمْرِ الزَّيْنِ ظَاهِرُهُ مِنِ الْإِضْرَارِ وَالْقَبَائِحِ انْقَلَبَ زَيْنُهُ عِنْدَهُ شَيْنًا، خُصَّ التَّزْيِينُ بِهِمْ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ذَمُّهُمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ خُلُقِهِمْ، وَلِهَذَا لَزِمَ حَمْلُ التَّزْيِينِ عَلَى تَزْيِينٍ يُعَدُّ ذَمًّا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَزْيِينًا مَشُوبًا بِمَا يَجْعَلُ تِلْكَ الزِّينَةَ مَذَمَّةً، وَإِلَّا فَإِنَّ أَصْلَ تَزْيِينِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْمُقْتَضِي لِلرَّغْبَةِ فِيمَا هُوَ زَيْنٌ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِذَا رُوعِيَ فِيهِ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِرَعْيِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: ٣٢] .

وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَوَاقِعَ التَّزْيِينِ الْمَذْمُومِ فَحَصَرْتُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَا لَيْسَ بِزَيْنٍ أَصْلًا لَا ذَاتًا وَلَا صِفَةً، لِأَنَّ جَمِيعَهُ ذَمٌّ وَأَذًى وَلَكِنَّهُ زُيِّنَ لِلنَّاسِ بِأَوْهَامٍ وَخَوَاطِرَ شَيْطَانِيَّةٍ

وَتَخْيِيلَاتٍ شِعْرِيَّةٍ كَالْخَمْرِ. الثَّانِي مَا هُوَ زَيْنٌ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ عَوَاقِبُ تَجْعَلُهُ ضُرًّا وَأَذًى كَالزِّنَا. الثَّالِثُ مَا هُوَ زَيْنٌ لَكِنَّهُ يَحِفُّ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ ذَمِيمًا كَنَجْدَةِ الظَّالِمِ وَقَدْ حَضَرَ لِي التَّمْثِيلُ لِثَلَاثَتِهَا بِقَوْلِ طَرَفَةَ:

وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى ... وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي

فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ

وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ وَالدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ ٢

وَكَرِّي إِذَا نَادَى الْمُضَافُ مُجَنَّبًا ... كَسِيِدِ الْغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِِِ