وَقَوْلُهُ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، وَهَذِهِ حَالَةٌ أَعْجَبُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ حَالَةُ التَّنَاهِي فِي الْغُرُورِ إِذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى افْتِتَانِهِمْ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى سَخِرُوا بِمَنْ لَمْ يَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَا هَدَاهُمُ الدِّينُ إِلَى وُجُوبِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ وَأَنْوَاعٍ تَنْطَوِي عَلَى خَبَائِثَ.
وَالسَّخَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: كَالْفَرَحِ وَقَدْ تُسَكَّنُ الْخَاءُ تَخْفِيفًا وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْمُ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ مَشُوبٌ بِاحْتِقَارِ الْحَالِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهَا، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى وَصْفٍ نَفْسِيٍّ مِثْلُ عَجِبَ، وَيَتَعَدَّى بِمِنْ جَارَّةٍ لِصَاحِبِ الْحَالِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهَا فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ ابْتِدَاءً مَعْنَوِيًّا، وَفِي لُغَةِ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَوَجْهُ سُخْرِيَتِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمُ احْتَقَرُوا رَأْيَهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّذَّاتِ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَأَفْنَوْهُمْ فِي ذَلِكَ وَرَأَوْهُمْ قَدْ أَضَاعُوا حُظُوظَهُمْ وَرَاءَ أَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي غَيْرِ نِعْمَةٍ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَا خُلُودَ فِي الدُّنْيَا وَلَا حَيَاةَ بَعْدَهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (أَنْشَدَهُ شِمْرُ) :
وَأَحْمَقُ مِمَّنْ يَلْعَقُ الْمَاءَ قَالَ لِي ... دَعِ الْخَمْرَ وَاشْرَبْ مِنْ نَقَاخٍ (١) مَبَرَّدِ
فَالسُّخْرِيَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ تَزْيِينِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ وَلِذَلِكَ يَصِحُّ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ لِيُفِيدَ تَقْيِيدَ حَالَةِ التَّزْيِينِ بِحَالَةِ السُّخْرِيَةِ، فَتَتَلَازَمُ الْحَالَانِ وَيُقَدَّرُ لِلْجُمْلَةِ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وهم يَسْخَرُونَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ الْكُفَّارُ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ بِلَالًا وَعَمَّارًا وَصُهَيْبًا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ تَرَكُوا الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَّ لِطَلَبِ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْآخِرَةِ وَهِيَ شَيْءٌ
بَاطِلٌ، وَمِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَالْمُنَافِقُونَ.
وَجِيءَ فِي فِعْلِ التَّزْيِينِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي فِعْلِ السُّخْرِيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ قَضَاءً لِحَقَّيِ الدَّلَالَةِ على أَن مَعْنيين فِعْلِ التَّزْيِينِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِيهِمْ لِأَنَّ الْمَاضِيَ يَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ، وَأَنَّ مَعْنَى يَسْخَرُونَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَيُعْلِمُ السَّامِعَ أَنَّ مَا هُوَ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ هُوَ أَيْضًا مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّ الشَّيْءَ الرَّاسِخَ فِي النَّفْسِ لَا تَفْتُرُ عَنْ تَكْرِيرِهِ، وَيُعْلِمُ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَمِرًّا هُوَ أَيْضًا مُحَقَّقٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَسْتَمِرُّ إِلَّا وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ نَفْسِ فَاعِلِهِ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَتُزَيَّنُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَسَخِرُوا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا اخْتِيرَ لِفِعْلِ التَّزْيِينِ خُصُوصُ الْمُضِيِّ
(١) النقاخ: المَاء العذب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute