قُلْتُ: وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَقَدْ جَعَلَ الْإِزْلَاقَ بِأَبْصَارِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، شُبِّهَتِ الْأَبْصَارُ بِالسِّهَامِ وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ وَهُوَ فِعْلُ (يَزْلِقُونَكَ) وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمرَان:
١٥٥] .
وَقَرَأَ نَافِعُ وَأَبُو جَعْفَرٍ (يَزْلِقُونَكَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مُضَارِعُ زَلَقَ بِفَتْحِ الْلَّامِ يَزْلَقُ مُتَعَدِّيًا، إِذَا نَحَّاهُ عَنْ مَكَانِهِ.
وَجَاءَ يَكادُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجَاءَ فِعْلُ سَمِعُوا مَاضِيًا لِوُقُوعِهِ مَعَ لَمَّا وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ فَرْضٍ.
وَالْلَّامُ فِي لَيُزْلِقُونَكَ لَامُ الْابْتِدَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ كَثِيرًا فِي خَبَرِ إِنْ الْمَكْسُورَةِ وَهِيَ أَيْضًا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ بَيْنَهُمْ، فَمَعَادُ الضَّمِيرِ كَائِنٌ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ، أَوْ لَيْسَ لِلضَّمِيرِ مَعَادٌ فِي كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ فِي غَالِبِ مَجَالِسِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ ذَلِكَ اعْتِلَالًا لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ لَمْ يَجِدُوا فِي الذِّكْرِ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ مَدْخَلًا لِلطَّعْنِ فِيهِ فَانْصَرَفُوا إِلَى الطَّعْنِ فِي صَاحِبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ لِيَنْتَقِلُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْجَارِيَ عَلَى لِسَانِهِ لَا يُوثَقُ بِهِ لِيَصْرِفُوا دَهْمَاءَهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ، فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ بِقَوْلِهِ: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، أَيْ مَا الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَلَيْسَ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ النَّاطِقَ بِهِ لَيْسَ مِنَ الْمَجَانِينِ فِي شَيْءٍ.
وَالذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ بِاللَّهِ وَالْجَزَاءُ هُوَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ لِأَنَّ فِيهِ صَلَاحَ النَّاسِ.
فَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ تُرْجِعُ كُلَّ ضَمِيرٍ مِنْ ضَمِيرِيِ الْغَيْبَةِ إِلَى مَعَادِهِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
أَيْ لَأَحْرَزَ الْكُفَّارُ مَا جَمَّعَهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: ٢] مُحْسِّنٌ رَدَّ الْعَجُزَ عَلَى الصَّدْرِ.