للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الظَّنِّ: عِلْمٌ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُقَامُ مَقَامُ الْعِلْمِ فِي الْعَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَ: يُقَالُ: أَظُنُّ ظَنًّا كَالْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَهُوَ عِنْدَهُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ مَجَازًا. وَهَذَا أَيْضًا رَأْيُ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ وَالْفَيْرُوزَآبَادِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ تَنْكِيرَ ظَنًّا أُرِيدَ بِهِ التَّقْلِيلُ، وَأُكِدَّ، بِ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ فَاحْتَمَلَ الْاحْتِمَالَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٦] وَقَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١٨] .

وَالْمَعْنَى: إِنِّي عَلِمْتُ فِي الدُّنْيَا أَنِّي أَلْقَى الْحِسَابَ، أَيْ آمَنَتُ بِالْبَعْثِ. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحِسَابِ بِتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِمَّا كَانَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ.

وَجُمْلَةُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْفَرَحِ وَالْبَهْجَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْله: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ وَبِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ وَإِفَادَةِ التَّسَبُّبِ.

وَمَوْقِعُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِيتَائِهِ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْمَسَرَّةِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْمَحْشَرِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا قَبْلَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ اشْتَمَلَ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ فِي نَعِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِعَادَةُ الْفَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ مِنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: ١١٤] .

وَالْعِيشَةُ: حَالَةُ الْعَيْشِ وَهَيْئَتُهُ.

وَوَصْفُ عِيشَةٍ بِ راضِيَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِمُلَابَسَةِ الْعِيشَةِ حَالَةَ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْعَائِشُ مُلَابَسَةَ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفِهَا.

وَالرَّاضِي: هُوَ صَاحِبُ الْعِيشَةِ لَا الْعِيشَةُ، لِأَنَّ راضِيَةٍ اسْمُ فَاعِلِ رَضِيَتْ إِذَا حَصَلَ لَهَا الرِّضَى وَهُوَ الْفَرَحُ وَالْغِبْطَةُ.