وَقَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِهِ وَبِالِاسْتِغْفَارِ تَحْضِيضًا عَلَيْهِ وَإِبْطَالًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِفُضُولِ الْقَوْلِ وَالتَّفَاخُرِ، فَإِنَّهُ يَجُرُّ إِلَى الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ، وَالْمَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مُنْغَمِسًا فِي الْعِبَادَةِ فِعْلًا وَقَوْلًا وَاعْتِقَادًا.
وَقَوْلُهُ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بَيَانٌ لِصِفَةِ الذِّكْرِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ إِلَخْ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ فِي أَيَّامِ مِنًى بِالتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَمَفَاخِرِ أَيَّامِهِمْ، فَكَانُوا يَقِفُونَ بَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى أَيْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَسْجِدُ الْخَيْفِ وَبَيْنَ الْجَبَلِ (أَيْ جَبَلِ مِنًى الَّذِي مَبْدَؤُهُ الْعَقَبَةُ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الْجَمْرَةُ) فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ.
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ» عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ وَذَكَرَ أَقْوَالًا
نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُ ذِكْرِ اللَّهِ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَتَعْمِيرِ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْذِنُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الْآبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أضلّ أَوْ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْطُوفُ بِهَا فِي مِثْلِ مَا هُنَا أَوْلَى بِمَضْمُونِ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَفَادَتْ (أَوْ) مَعْنًى مِنَ التَّدَرُّجِ إِلَى أَعْلَى، فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وَشُبِّهَ أَوَّلًا بِذِكْرِ آبَائِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يشتغلون فِي ذَلِك الْمَنَاسِكِ بِذِكْرٍ لَا يَنْفَعُ وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمْ أَنْ يُعَوِّضُوهُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ ذِكْرِ الْآبَاءِ بِالتَّفَاخُرِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّيٍّ: إِنَّ (أَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَنَفَيَا اشْتِرَاطَ تَقَدُّمِ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ وَاشْتِرَاطَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ. وَعَلَيْهِ خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧] ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا إِظْهَارُ أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِثْلَ آبَائِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَكُونُ أَشَدَّ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالذِّكْرِ.
وَ (أَشَدَّ) لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ تَقْدِيرُهُ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فَتَكُونُ فَتْحَةُ أَشَدَّ الَّتِي فِي آخِرِهِ فَتْحَةَ نَصْبٍ، فَنَصْبُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَذِكْرِكُمْ وَالتَّقْدِيرُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute