للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَعْنَى: لَا تُؤْمِنُونَ وَلَا تذكرُونَ، أَي عِنْد مَا تَقُولُونَ هُوَ شَاعِرٌ وَهُوَ مَجْنُونٌ، وَلَا نَظَرَ إِلَى إِيمَانِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٨] قَوْلُهُ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ.

وَانْتَصَبَ قَلِيلًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تُؤْمِنُونَ وتَذَكَّرُونَ أَيْ تُؤْمِنُونَ إِيمَانًا قَلِيلًا، وَتَذَكَّرُونَ تَذَكُّرًا قَلِيلًا.

وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:

قَلِيلًا بِهِ مَا يَحْمَدُنَّكَ وَارِثٌ ... إِذَا نَالَ مِمَّا كُنْتَ تَجْمَعُ مَغْنَمًا

وَجَمُلَتَا قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ مُعْتَرِضَتَانِ، أَيِ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، وَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ كَاهِنٍ، وَهَذَا الْانْتِفَاءُ لَا يُحَصِّلُ إِيمَانَكُمْ وَلَا تَذَكُّرَكُمْ لِأَنَّكُمْ أَهْلُ عِنَادٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا تُؤْمِنُونَ، وَمَا تَذَكَّرُونَ كِلَيْهِمَا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ) وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُمَا مُعْتَرِضَتَيْنِ.

وَأُوثِرَ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي جَانِبِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، وَنَفْيُ التَّذَكُّرِ فِي جَانِبِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ كَاهِنٍ، لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِ الْقُرْآنِ قَوْلَ شَاعِرٍ بَدِيهِيٌّ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الشِّعْرَ مِنِ اتِّزَانِ أَجْزَائِهِ فِي الْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَالتَّقْفِيَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِي جَمِيعِ أَوَاخِرِ

الْأَجْزَاءِ، فَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ قَوْلُ شَاعِرٍ بُهْتَانٌ مُتَعَمَّدٌ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُمْ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ كَوْنِ الْقُرْآنِ قَوْلَ كَاهِنٍ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَدْنَى تَأَمُّلٍ إِذْ قد يشبّه فِي بادىء الرَّأْيِ عَلَى السَّامِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامٌ مَنْثُورٌ مُؤَلَّفٌ عَلَى فَوَاصِلَ وَيُؤَلَّفُ كَلَامُ الْكُهَّانِ عَلَى أَسْجَاعٍ مُثَنَّاةٍ مُتَمَاثِلَةٍ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ، فَإِذَا تَأَمَّلَ السَّامِعُ فِيهِ بِأَدْنَى تَفَكُّرٍ فِي نَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ، فَنَظَمُهُ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ كَلَامِ الْكُهَّانِ إِذْ لَيْسَتْ فَقَرَاتُهُ قَصِيرَةً وَلَا فَوَاصِلُهُ مُزْدَوِجَةً مُلْتَزَمٌ فِيهَا السَّجْعُ، وَمَعَانِيهِ لَيْسَتْ مِنْ مَعَانِي الْكَهَانَةِ الرَّامِيَةِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا يَحْدُثُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَحْدَاثٍ، أَوْ مَا يُلِمُّ بِقَوْمٍ مِنْ مَصَائِبَ مُتَوَقَّعَةٍ لِيَحْذَرُوهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ مُنْتَفِيًا عَنْهُمُ التَّذَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَذَاكَ بَطَلَ مُدَعَّاهُمْ فَحَقَّ أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا ادَّعَاهُ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ.