وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي دُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ مَعَ (لَا أُقْسِمُ) عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [٣٨، ٣٩] ، وَقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٧٥] .
وَقَوْلُهُ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَوَّلَهُمَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ نُبَدِّلَهُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، أَيْ نُبَدِّلُ ذَوَاتَهُمْ خَلْقًا خَيْرًا مِنْ خَلْقِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ. وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْإِتْقَانِ وَالسُّرْعَةِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّمَا كَانَ خَلْقًا أُتْقِنَ مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ خَلْقٌ مُنَاسِبٌ لِعَالَمِ الْخُلُودِ، وَكَانَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ مُنَاسِبًا لِعَالَمِ التَّغَيُّرِ وَالْفَنَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نُبَدِّلَ مُضَمَّنًا مَعْنَى: نُعَوِّضُ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ نُبَدِّلَ ضَمِيرًا مِثْلَ ضَمِيرِ مِنْهُمْ أَيْ نُبَدِّلُهُمْ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي خَيْراً مِنْهُمْ.
وَ (مِنْ) تَفْضِيلِيَّةٌ، أَيْ خَيْرًا فِي الْخِلْقَةِ، وَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ زَمَانَيِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالْخَلْقِ الثَّانِي، أَوِ اخْتِلَافِ عَالَمَيْهِمَا.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ نُبَدِّلَ هَؤُلَاءِ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ، أَيْ بِأُمَّةٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ نُبَدِّلَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا مِثْلَ مَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ خَيْراً مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْبَدَلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: ٦١] ، وَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنْ سَيَسْتَأْصِلُهُمْ وَيَأْتِي بِقَوْمٍ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: ١٦] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨] .
وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِحَالِهِمْ.
وَذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، وَالْمَسْبُوقُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَغْلُوبِ عَنْ أَمْرِهِ، شُبِّهَ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْحَلْبَةِ، أَوْ بِالْمَسْبُوقِ فِي السَّيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: ٤] ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءِ الْفَقْعَسِيِّ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ
يُرِيدُ: كَأَنَّكَ لَمْ تُغْلَبْ إِذَا تَدَارَكْتَ أَمْرَكَ وَأَدْرَكْتَ طِلْبَتَكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute