وَجُمْلَةُ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدًا مِنَ الْكَافِرِينَ يُرِيدُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُضِلُّوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَلِدُوا أَبْنَاءً يَنْشَأُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَالْأَرْضُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْكُرَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يُرَادَ أَرْضٌ مَعْهُودَةٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٥٥] .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ يَوْمَئِذٍ مُنْحَصِرِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَيَجُوزُ خِلَافُهُ، وَعَلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَنْشَأُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ قَدْ غَمَرَ جَمِيعَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ طُوفَانًا قَاصِرًا عَلَى نَاحِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ عُمُومِ الْأَرْضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٤] .
وَخَبَرُ إِنَّكَ مَجْمُوعُ الشَّرْطِ مَعَ جَوَابِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِنَّ) لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُبْتَدَأٌ وَشَرْطٌ رَجَحَ الشَّرْطُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فَأُعْطِيَ الشَّرْطُ الْجَوَابَ وَلَمْ يُعْطَ الْمُبْتَدَأُ خَبَرًا لِدَلَالَةِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ.
وَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّهُمْ لَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا بِأَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَنْشَأُونَ فِيهِمْ فَيُلَقِّنُونَهُمْ دِينَهُمْ وَيَصُدُّونَ نُوحًا عَنْ أَنْ يُرْشِدَهُمْ فَحَصَلَ لَهُ عِلْمٌ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ.
وَالْمَعْنَى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا مَنْ يَصِيرُ فَاجِرًا كَفَّارًا عِنْدَ بُلُوغِهِ سِنَّ الْعَقْلِ.
وَالْفَاجِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُجُورِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ الْفَسَادِ.
وَالْكُفَّارُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَوْصُوفِ بِالْكُفْرِ، أَيْ إِلَّا مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْفِعْلِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٤٢] .
وَفِي كَلَامِ نُوحٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُصْلِحِينَ يَهْتَمُّونَ بِإِصْلَاحِ جِيلِهِمُ الْحَاضِرِ وَلَا يُهْمِلُونَ تَأْسِيسَ أُسُسِ إِصْلَاحِ الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ إِذِ الْأَجْيَالُ كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي نَظَرِهِمُ الْإِصْلَاحِيِّ. وَقَدِ انْتَزَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠] دَلِيلًا عَلَى إِبْقَاءِ أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ بَيْنَ الْجَيْشِ الَّذِي فَتَحَ الْعِرَاقَ وَجَعَلَهَا خَرَاجًا لِأَهْلِهَا قَصْدًا لِدَوَامِ الرِّزْقِ مِنْهَا لِمَنْ سَيَجِيءُ من الْمُسلمين.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute