(١٤)
وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١] ، أَيْ لِأَنَّ لَدَيْنَا مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَدِّكَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَفَادَ تَهْدِيدَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ النِّقَمَ أُعِدَّتْ لَهُمْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنْ خَزَائِنِ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ بِحَيْثُ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَأْهِلَةِ لَهَا، وَهُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَأَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ ضِدًّا لِأُصُولِ النِّعْمَةِ الَّتِي خُوِّلُوهَا، فَبَطِرُوا بِهَا وَقَابَلُوا الْمُنْعِمَ بِالْكُفْرَانِ.
فَالْأَنْكَالُ مُقَابِلُ كُفْرَانِهِمْ بِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَقْدِرَةِ لِأَنَّ الْأَنْكَالَ الْقُيُودُ. وَالْجَحِيمُ: وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ مُقَابِلُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ لَذَّةِ الِاسْتِظْلَالِ وَالتَّبَرُّدِ. وَالطَّعَامُ: ذُو الْغُصَّةِ مُقَابِلُ مَا كَانُوا مُنْهَمِكِينَ فِيهِ مِنْ أَطْعِمَتِهِمُ الْهَنِيئَةِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْمَطْبُوخَاتِ وَالصَّيْدِ. وَالْأَنْكَالُ: جَمْعُ
نَكْلٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَبِكَسْرِهَا وَبِسُكُونِ الْكَافِ. وَهُوَ الْقَيْدُ الثَّقِيلُ.
وَالْغُصَّةُ بِضَمِّ الْغَيْن: اسْم الْأَثر الْغَصِّ فِي الْحَلْقِ وَهُوَ تَرَدُّدُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ بِحَيْثُ لَا يُسِيغُهُ الْحَلْقُ مَنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ وَعَبْرَةٍ.
وَإِضَافَةُ الطَّعَامِ إِلَى الْغُصَّةِ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ مِنَ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَإِنَّ الْغُصَّةَ عَارِضٌ فِي الْحَلْقِ سَبَبُهُ الطَّعَامُ أَوِ الشُّرْبُ الَّذِي لَا يُسْتَسَاغُ لِبَشَاعَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ.
وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: مُقَابِلُ مَا فِي النِّعْمَةِ مِنْ مَلَاذِّ الْبَشَرِ، فَإِنَّ الْأَلَمَ ضِدُّ اللَّذَّةِ. وَقَدْ عَرَّفَ الْحُكَمَاءُ اللَّذَّةَ بِأَنَّهَا الْخَلَاصُ مِنَ الْأَلَمِ.
وَقَدْ جُمِعَ الْأَخِيرُ جَمْعَ مَا يُضَادُّ مَعْنَى النَّعْمَةِ (بِالْفَتْحِ) .
وَتَنْكِيرُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهَا وَتَهْوِيلِهَا، وَ (لَدَى) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُونِ الْعَظَمَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَدَى خَزَائِنِنَا، أَيْ خَزَائِنِ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِيجَادِ ذَلِكَ مَتَى أَرَادَ اللَّهُ.
وَيَتَعَلَّقُ يَوْمَ تَرْجُفُ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ خَبَرُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا.
وَالرَّجْفُ: الزَّلْزَلَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَالْمُرَادُ: الرَّجْفُ الْمُتَكَرِّرُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ انْفِرَاطُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَانْحِلَالُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute