للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] .

كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.

اسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: مَثَلًا بِتَأْوِيلِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ، بِالْمَذْكُورِ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ الْحَاصِلِ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَلِلْكَافِرِينَ، وَالْحَاصِلِ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَنُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضِلَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْهُدَى الَّذِي اهْتَدَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ يَهْدِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ.

وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ تَقْرِيبُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْبَشَرِ، إِلَى الْمَعْنَى الْمَحْسُوسِ الْمَعْرُوفِ فِي وَاقِعَةِ الْحَالِ، تَعْلِيمًا

لِلْمُسْلِمِينَ وَتَنْبِيهًا لِلنَّظَرِ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ نُفُوسَهُمْ.

وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ السَّبَبِيَّةُ فِي اهْتِدَاءِ مَنْ يَهْتَدِي وَضَلَالِ مَنْ يَضِلُّ، فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا وَإِرَادَةً لِحِكْمَةٍ اقْتَضَاهَا عِلْمُهُ تَعَالَى فَتَفَاوَتَ النَّاسُ فِي مَدَى إِفْهَامِهِمْ فِيهِ بَيْنَ مُهْتَدٍ وَمُرْتَابٍ مُخْتَلِفِ الْمَرْتَبَةِ فِي رَيْبِهِ، ومكابر كَافِر وسيّىء فَهْمٍ كَافِر.

وَهَذِه كلمة عَظِيمَةٌ فِي اخْتِلَافِ تَلَقِّي الْعُقُولِ لِلْحَقَائِقِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا أَوْ ضِدِّهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ قَرَائِحِهِمْ وَفُهُومِهِمْ وَتَرَاكِيبِ جِبِلَّاتِهِمُ الْمُتَسَلْسِلَةِ مِنْ صَوَابٍ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ تَرَدُّدٍ وَاضْطِرَابٍ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ حَنَقٍ وَعِنَادٍ إِلَى مِثْلِهِ، فَانْطَوَى التَّشْبِيهُ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ عَلَى أَحْوَالٍ وَصُوَرٍ كَثِيرَةٍ تَظْهَرُ فِي الْخَارِجِ.

وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُوجِدُ الْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْجِبِلَّاتِ، وَاقْتِبَاسُ الْأَهْوَاءِ وَارْتِبَاطُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَدَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَمُقَاوَمَةُ أَيِمَّةِ الضَّلَالِ لِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ. تِلْكَ الْأَسْبَابُ الَّتِي أَدَّتْ بِالضَّالِّينَ إِلَى ضَلَالِهِمْ وَبِالْمُهْتَدِينَ إِلَى هُدَاهُمْ. وَكُلٌّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَمَا عَلَى الْأَنْفُسِ الْمُرِيدَةِ الْخَيْرَ وَالنَّجَاةَ إِلَّا التَّعَرُّضَ لِأَحَدِ الْمَهِيعَيْنِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ وَالتَّدَبُّرِ لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: ٢٨٦] .