للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ اللَّفْظِيَّ إِذَا أُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ يُكَرَّرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَالِبًا، أَقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ عَظِيمٍ، وَبِحَالَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

ومناسبة الْقسم ب الْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَظْهَرُ بِهَا أَنْوَارٌ فِي خِلَالِ الظَّلَامِ فَنَاسَبَتْ حَالَيِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [المدثر: ٣١] وَمن قَوْلِهِ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر: ٣١] فَفِي هَذَا الْقَسَمِ تَلْوِيحٌ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِحَالِ اخْتِرَاقِ النُّورِ فِي الظُّلْمَةِ.

وَإِدْبَارُ اللَّيْلِ: اقْتِرَابُ تَقَضِّيهِ عِنْدَ الْفَجْرِ، وَإِسْفَارُ الصُّبْحِ: ابْتِدَاءُ ظُهُورِ ضَوْءِ الْفَجْرِ.

وَكُلٌّ مِنْ إِذْ وإِذا وَاقِعَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ اللَّيْلِ وَمِنَ الصُّبْحِ، أَيْ أُقْسِمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النِّظَامِ الْمُحْكَمِ الْمُتَشَابِهِ لِمَحْوِ اللَّهِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ بِنُورِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيم: ١] .

وَقَدْ أُجْرِيَتْ جُمْلَةُ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ مَجْرَى الْمَثَلِ.

وَمَعْنَى إِحْدَى أَنَّهَا الْمُتَوَحِّدَةُ الْمُتَمَيِّزِةُ مِنْ بَيْنِ الْكُبَرِ فِي الْعِظَمِ لَا نَظِيرَةَ لَهَا كَمَا يُقَالُ: هُوَ أَحَدُ الرِّجَالِ لَا يُرَادُ: أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بَلْ يُرَادُ: أَنَّهُ مُتَوَحِّدٌ فِيهِمْ بَارِزٌ ظَاهِرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] ، وَفِي الْمَثَلِ «هَذِهِ إِحْدَى حُظَيَّاتِ لُقْمَانَ» .

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ إِذْ أَدْبَرَ بِسُكُونِ ذَالِ إِذْ وَبِفَتْحِ هَمْزَةِ أَدْبَرَ وَإِسْكَانِ دَالِهِ، أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ فِي حَالَةِ إِدْبَارِهِ الَّتِي مَضَتْ وَهِيَ حَالَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ تَمْضِي وَتَحْضُرُ وَتُسْتَقْبَلُ، فَأَيُّ زَمَنٍ اعْتُبِرَ مَعَهَا فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ يُقْسِمَ بِكَوْنِهَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ مَعَ اسْمِ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِذَا دَبَرَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ إِذَا بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَبِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ مِنْ دَبَرَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُضِيٍّ مُجَرَّدٌ، يُقَالُ: دَبَرَ، بِمَعْنَى: أَدْبَرَ، وَمِنْهُ وَصْفُهُ بِالدَّابِرِ فِي قَوْلِهِمْ: أَمْسِ الدَّابِرُ، كَمَا يُقَالُ: قَبَلَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ، فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِالْحَالَةِ