للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيُلْحَقُ هَذَا بِمُتَشَابِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَاهُ لَيْسَ إِثْبَاتَ صِفَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الصِّفَةِ وَيَسْتَلْزِمُهَا لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى اقْتِضَاءِ جِهَةٍ لِلذَّاتِ، وَمِقْدَارٍ يُحَاطُ بِجَمِيعِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعَدَّ الْوَعْدُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ تَعَالَى مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ.

وَلِعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ أَفْهَامٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَأَمَّا صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسُلَفُهَا فَإِنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الَّتِي تَخَلَّقُوا بهَا من سِيرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَلَى إِجْمَالِهِ، وَصَرْفِ أَنْظَارِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي تَشْخِيصِ حَقِيقَتِهِ وَإِدْرَاجِهِ تَحْتَ أَحَدِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، فَقَدْ سَمِعُوا هَذَا وَنَظَائِرَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ قَلِيلًا مِنْهَا، فِيمَا شَغَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ وَلَا طَلَبُوا تَفْصِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى مَا هُوَ أَحَقُّ بِالْعِنَايَةِ وَهُوَ التَّهَمُّمُ بِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَبَثِّهَا وَتَقْرِيرِ سُلْطَانِهَا، مَعَ الْجَزْمِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ اللَّوَازِمِ الْعَارِضَة لظواهر تِلْكَ الصِّفَاتِ، جَاعِلِينَ إِمَامَهُمُ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] ، أَوْ مَا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ التَّنْزِيهِ الْخَاصَّةِ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ الْوَصْفُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ:

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَام: ١٠٣] بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِنَا هَذَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي عَقِيدَةِ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا نَبَعَ فِي عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ تَطَلَّبَ مَعْرِفَةَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَأَلْجَأَهُمُ الْبَحْثُ الْعِلْمِيُّ إِلَى التَّعَمُّقِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَدَقَائِقِ عِبَارَاتِهِ وَخُصُوصِيَّاتِ بَلَاغَتِهِ، لَمْ يَرَوْا طَريقَة السّلف مقنغة لِأَفْهَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْخَلَفِ لِأَنَّ طَرِيقَتَهُمْ فِي الْعِلْمِ طَرِيقَةُ تَمْحِيصٍ وَهِيَ اللَّائِقَةُ بِعَصْرِهِمْ، وَقَارِنُ ذَلِكَ مَا حَدَثَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ النِحَلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَإِلْقَاءِ شُبَهِ الْمَلَاحِدَةِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَا بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْغَوْصِ وَالتَّعَمُّقِ لِإِقَامَةِ الْمَعَارِفِ عَلَى أَعْمِدَةٍ لَا تَقْبَلُ التَّزَلْزُلَ، وَلِدَفْعِ شُبَهِ الْمُتَشَكِّكِينَ وَرَدِّ مَطَاعِنِ الْمُلْحِدِينَ، فَسَلَكُوا مَسَالِكَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ مِنْ أَقْوَالٍ وَمَعَانٍ وَإِقْرَارِ كُلِّ حَقِيقَةٍ فِي نِصَابِهَا، وَذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمُقْتَضِي وَيُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ.

فَسَلَكَتْ جَمَاعَاتٌ مَسَالِكَ التَّأْوِيلِ الْإِجْمَالِيِّ بِأَنْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى إجمالها ويوقنوا التَّنْزِيه عَنْ ظَوَاهِرِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْصِلُونَ صَرْفَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا بَلْ يُجْمِلُونَ التَّأْوِيلَ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُدْعَى السَّلَفِيَّةَ لِقُرْبِ طَرِيقَتِهَا مِنْ طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مِقْدَارِ تَأْصِيلِ أُصُولِهَا تَفَاوُتًا جَعَلَهَا فِرَقًا: فَمِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، الْخَوَارِجُ الْأَقْدَمُونَ غَيْرَ الَّذِينَ الْتَزَمُوا طَرِيقَةَ الْمُعْتَزِلَةِ.