للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِهْمَالِ أَحَدٍ شَيْئًا وَعَدَمِ عنايته بأحواله ويتعهده، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ.

وَالْمُرَادُ بِمَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ حَالُ الْعَدَمِ دُونَ إِحْيَاءٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣] وَقَوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ

[الْقِيَامَة: ١٣] .

وَعُدِلَ عَنْ بِنَاءِ فِعْلِ يُتْرَكُ لِلْفَاعِلِ فَبُنِيَ لِلنَّائِبِ إِيجَازًا لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ قَوْله السَّابِق: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ نَتْرُكَهُ دُونَ بَعْثٍ وَأَنْ نُهْمِلَ أَعْمَالَهُ سُدًى.

فَجَاءَ ذِكْرُ سُدىً هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، إِيمَاءً إِلَى أَنْ مُقْتَضَى حِكْمَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ خَالِقُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُحْيِيهِ لِيُجَازِيَهُ عَلَى مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ الْأُولَى.

وَفِي إِعَادَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ تهيئة لما سيعقب مِنْ دَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ جَانِبِ الْمَادَّةِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً [الْقِيَامَة: ٣٧] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ.

فَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً تَكْرِيرٌ وَتَعْدَادٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى الْكَافرين تكذيبهم بالعبث، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَى مَا قَدَّمَ الْإِنْسَانُ وَأَخَّرَ.

وَمَعْنَى هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] .

وسُدىً بِضَم السِّين وبالقصر: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُهْمَلِ وَيُقَالُ: سُدًى بِفَتْحِ السِّينِ وَالضَّمُّ أَكْثَرُ وَهُوَ اسْمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ يُقَالُ: إِبِلٌ سُدًى، وَجَمَلٌ سُدًى وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فِعْلٌ فَيُقَالُ: أَسْدَى إِبِلَهُ وَأَسْدَيْتُ إِبِلِي، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ.

وَلَمْ يُفَسِّرْ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَكَذَلِكَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَوَقَعَ سُدىً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُتْرَكَ.

فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَبْدَعَ تَرْكِيبَهُ وَوَهَبَهُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ لِيَسْتَعْمِلَهَا فِي مَنَافِعَ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ فِي ضِدِّ