وَصِيغَةُ أَمْشاجٍ ظَاهِرُهَا صِيغَةُ جَمْعٍ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهَا الْفَرَّاءُ وَابْنُ السِّكِّيتِ وَالْمُبَرَّدُ، فَهِيَ إِمَّا جَمْعُ مِشْجٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ بِوَزْنِ عَدْلٍ، أَيْ مَمْشُوجٍ، أَيْ مَخْلُوطٍ مِثْلَ ذِبْحٍ، وَهَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» ، أَوْ جَمْعُ مَشَجٍ بِفَتْحَتَيْنِ مِثْلَ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، أَوْ جَمْعُ مَشِجٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مِثْلَ كَتِفٍ وَأَكْتَافٍ.
وَالْوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ أَمْشاجٍ مُفْرَدٌ كَقَوْلِهِمْ: بُرْمَةُ أَعْشَارٍ وَبُرْدُ أَكْيَاشٍ (بِهَمْزَةٍ وَكَافٍ وَتَحْتِيَّةٍ وَأَلِفٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ الَّذِي أُعِيدَ غَزْلُهُ مَرَّتَيْنِ) . قَالَ: «وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَمْشَاجُ جَمْعَ مَشِجٍ بَلْ هُمَا (أَيْ مَشِجٌ وَأَمْشَاجٌ) مِثْلَانِ فِي الْإِفْرَادِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ: إِنَّهُ خَالَفَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ. وَأَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ صَرِيحًا فِي مَنْعِ أَنْ يَكُونَ أَمْشاجٍ مُفردا لِأَن أَثْبَتَ الْإِفْرَادَ فِي كَلِمَةِ أَنْعَامٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مَعْرُوفٌ بِشِدَّةِ مُتَابَعَةِ سِيبَوَيْهِ.
فَإِذَا كَانَ أَمْشاجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفْرَدًا كَانَ عَلَى صُورَةِ الْجَمْعِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» .
فَوَصْفُ نُطْفَةٍ بِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَإِذَا كَانَ جَمْعًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالْمُبَرِّدِ، كَانَ وَصْفُ النُّطْفَةِ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النُّطْفَةُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الْخَوَاصِّ، (فَلِذَلِكَ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ النُّطْفَةِ عُضْوًا) فوصف النُّطْفَة يجمع الِاسْمِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدَةِ الِاخْتِلَاطِ.
وَهَذِهِ الْأَمْشَاجُ مِنْهَا مَا هُوَ أَجزَاء كيمائية نَبَاتِيَّةٌ أَوْ تُرَابِيَّةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَنَاصِرُ قُوَى
الْحَيَاةِ.
وَجُمْلَةُ نَبْتَلِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُرِيدِينَ ابْتِلَاءَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ بَعْدَ بُلُوغِهِ طَوْرَ الْعَقْلِ وَالتَّكْلِيفِ، وَهَذِهِ الْحَالُ كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا.
وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَالُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقْنَا وَبَيْنَ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ، أَيِ التَّكْلِيفُ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ امْتِثَالُهُ أَوْ عِصْيَانُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ هِدَايَتِهِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقَعَ نَبْتَلِيهِ بَعْدَ جُمْلَةِ إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الْإِنْسَان: ٣] ، وَلَكِنَّهُ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute