هُوَ حَافٍ بِالْعَبْدِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْأَحْوَالِ غَيَّرَتْ أَحْوَالَهَا وَقَلَبَتْ آثَارَهُمَا رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، فَصَارَ الْعَبْدُ إِلَى صَلَاحٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَغْمُورًا بِالْفَسَادِ فَتَتَهَيَّأُ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ جَدِيدَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ حَافًّا بِهِ، مِثْلَ مَا حَصَلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قَبُولِ عَظِيمِ الْهُدَى وَتَوَغُّلِهِ فِيهِ فِي حِينِ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِسَابِغِ الضَّلَالَةِ وَالْعِنَادِ.
فَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ تَكْرِمَةً مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ وَعِنَايَةً بِهِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِإِرَادَةٍ مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً: إِمَّا لِأَنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ بِالنَّاسِ مِنْ شَرٍّ إِلَى خَيْرٍ كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَدِ الْعُمَرَيْنِ» وَإِمَّا بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ دَاعٍ اسْتُجِيبَ لَهُ فَقَدْ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَقِبَ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَةِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَقِبَ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تُسْلِمَ»
أَلَا تَرَى أَنَّ الْهِدَايَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُوتِيَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَثَرًا مِنْ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩] الْآيَةَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ»
. فَهَذَا مَا أَمْكَنَ مِنْ بَيَانِ هَاتَيْنِ الْمَشِيئَتَيْنِ بِحَسَبِ الْمُسْتَطَاعِ وَلَعَلَّ فِي ذَلِكَ مَا يُفَسِّرُ قَوْلَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مَعْنَى الْكَسْبِ وَالِاسْتِطَاعَةِ «إِنَّهَا سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ» .
وَبِهَذَا بَطُلَ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ لِأَنَّ الْآيَةَ أَثْبَتَتْ مَشِيئَةً لِلنَّاسِ وَجَعَلَتْ مَشِيئَةَ اللَّهِ شَرْطًا فِيهَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ، فَلِلْإِنْسَانِ مَشِيئَتُهُ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ إِلَّا فِي الْعِبَارَةِ بِالْخَلْقِ أَوْ بِالْكَسْبِ، وَعِبَارَةُ الْأَشْعَرِيِّ أَرْشَقُ وَأَعْلَقُ بِالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْخَالِقِ، وَإِلَّا فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ أَوْ عَدَمِ الْفَرْقِ وَتَفْصِيلِهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوب وَما تَشاؤُنَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى
الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَخَلَفٌ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَائِدًا إِلَى فَمَنْ شاءَ [الْإِنْسَان: ٢٩] .