إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ فِي الِاسْتِئْصَالِ يُقَالُ أَتَاهُمُ الْمَلِكُ إِذَا عَاقَبَهُمْ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قُلْتُ وَذَلِكَ فِي كُلِّ إِتْيَانٍ مُضَافٍ إِلَى مُنْتَقِمٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ فَاتِحٍ كَمَا تَقُولُ: أَتَاهُمُ السَّبُعُ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُمْ وَأَتَاهُمُ الْوَبَاءُ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ أَتَى عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُ وَاسْتَأْصَلَهُ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُ الْإِتْيَانِ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ وَالِاسْتِئْصَالُ قَالَ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: ٢] وَقَالَ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النَّحْل: ٢٦] وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ بِمُنَافٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ ظُهُورَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُدُوثَ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ يَكُونُ مَحْفُوفًا بِذَلِكَ لِتَشْعُرَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قَرِيبًا.
الْوَجْه الثَّالِثُ: إِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِمْ عَذَابُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَكَوْنُهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ زِيَادَةُ تَنْوِيهٍ بِذَلِكَ الْمَظْهَرِ وَوَقْعِهِ لَدَى النَّاظِرِينَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: يَأْتِيهِمْ كَلَامُ اللَّهِ الدَّالُّ عَلَى الْأَمْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْكَلَامُ مَسْمُوعًا مِنْ قِبَلِ
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ تَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ هُنَالِكَ مُضَافًا مُقَدَّرًا أَيْ يَأْتِيهم أَمر الله أَي قَضَاؤُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ أَوْ يَأْتِيهِمْ بَأْسُ اللَّهِ بِدَلِيلِ نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ وَقَوْلُهُ: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً [الْأَعْرَاف: ٤] وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي ظُهُورِ الْأَمْرِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ، آيَاتُ اللَّهِ أَوْ بَيِّنَاتُهُ أَيْ دَلَائِلُ قُدْرَتِهِ أَوْ دَلَائِلُ صِدْقِ رُسُلِهِ وَيُبَعِّدُهُ قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْوَجْهِ الْخَامِسِ أَوْ إِلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ هُنَالِكَ مَعْمُولًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الْبَقَرَة: ٢٠٩] وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ أَوْ بِبَأْسِهِ. وَالْأَحْسَنُ تَقْدِيرُ أَمْرٍ عَامٍّ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ وَعْدًا وَوَعِيدًا.
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٦] مَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ لَكِنْ بِمَا يُخَالِفُ الْمُتَعَارَفَ فِينَا، وَقِسْمٌ اتَّصَفَ اللَّهُ بِلَازِمِ مَدْلُولِهِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute