وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَسْرُوقٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَخَصَّهَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهَا تَذْكِيرًا لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الْآخِرَةِ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُمْ شَدِيدٌ تَعَلُّقُهُمْ بِالْحَيَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْيَهُودَ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْبَقَرَة: ٩٦] فالمشركين مَثَلٌ فِي حُبِّ الْحَيَاةِ فَفِي الْقَسَمِ بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ عِظَةٌ لَهُمْ وَعِبْرَةٌ.
وَالْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُنَاسِبٌ لِلْغَرَضِ الْأَهَمِّ مِنَ السُّورَةِ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ لِأَنَّ
الْمَوْتَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ.
وَغَرْقًا: اسْمُ مَصْدَرِ أَغْرَقَ، وَأَصْلُهُ إِغْرَاقًا، جِيءَ بِهِ مُجَرَّدًا عَنِ الْهَمْزَةِ فعومل مُعَاملَة مصدر الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ غَرِقَ مُتَعَدِّيًا وَلَا أَنَّ مَصْدَرَهُ مَفْتُوحُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ مَصْدَرِ أَغْرَقَ وَحُذِفَتْ مِنْهُ الزَّوَائِدُ قُدِّرَ فِعْلُهُ بَعْدَ حَذْفِ الزَّوَائِدِ مُتَعَدِّيًا.
وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ سُكِّنَتْ عَيْنُهُ تَخْفِيفًا وَرَعْيًا لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَشْطاً، وسَبْحاً، وسَبْقاً، وأَمْراً لَكَانَ أَرْقَبَ لِأَنَّ مُتَحَرِّكَ الْوَسَطِ يُخَفَّفُ بِالسُّكُونِ، وَهَذَا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلنَّازِعَاتِ، أَيْ نَزْعًا غَرْقًا، أَيْ مُغْرِقًا، أَيْ تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ مِنْ أَقَاصِي الْأَجْسَادِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النَّازِعاتِ صِفَةً لِلنُّجُومِ، أَيْ تَنْزِعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، أَيْ تَسِيرُ، يُقَالُ: يَنْزِعُ إِلَى الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ، أَيْ يَمِيلُ وَيَشْتَاقُ.
وَغَرْقًا: تَشْبِيهٌ لِغُرُوبِ النُّجُومِ بِالْغَرَقِ فِي الْمَاءِ وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْأَخْفَشُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ غَرِقَ وَأَنَّ تَسْكِينَ عَيْنِهِ تَخْفِيفٌ.
وَالْقَسَمُ بِالنُّجُومِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْم: ١] .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّازِعاتِ جَمَاعَاتِ الرُّمَاةِ بِالسِّهَامِ فِي الْغَزْوِ يُقَالُ: نَزَعَ فِي الْقَوْسِ، إِذَا مَدَّهَا عِنْدَ وَضْعِ السَّهْمِ فِيهَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute