فَوَارَاهُ فِيهَا، وَهِيَ فِي سُورَةُ الْعُقُودِ، فَأُسْنِدَ الْإِقْبَارُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَلْهَمَ النَّاسَ إِيَّاهُ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ بِمَا أَمَرَ فِي شَرَائِعِهِ مِنْ وُجُوبِ دَفْنِ الْمَيِّتِ.
وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ صِيغَةَ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي صِيغَةِ أَماتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ عَدُّوهَا قَاصِرَةً عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مِنَنًا عَلَى النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَتَسْوِيَتِهِمْ وَإِكْمَالِ قُوَاهُمْ أَحْيَاءً، وَإِكْرَامِهِمْ أَمْوَاتًا بِالدَّفْنِ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالشَّيْءِ اللَّقِيِّ يَجْتَنِبُ بَنُو جِنْسِهِ الْقُرْبَ مِنْهُ وَيُهِينُهُ الْتِقَامُ السِّبَاعِ وَتَمْزِيقُ مَخَالِبِ الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ، فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَماتَهُ هُوَ فِيمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ: فَأَقْبَرَهُ وَلَيْسَتِ الْإِمَاتَةُ وَحْدَهَا مِنَّةً.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ دَفْنِ أَمْوَاتِ النَّاسِ بِالْإِقْبَارِ دُونَ الْحَرْقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ مَجُوسُ الْهِنْدِ، وَدُونَ الْإِلْقَاءِ لِسِبَاعِ الطَّيْرِ فِي سَاحَاتٍ فِي الْجِبَالِ مَحُوطَةٍ بِجُدْرَانٍ دُونَ سَقْفٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ مَجُوسُ الْفُرْسِ وَكَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَوْتَى الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ فِي الْفَيَافِي إِذْ لَا يُوَارُونَهُمْ بِالتُّرَابِ وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَتَمَنَّوْنَهُ قَالَ الشَّنْفَرَى:
لَا تَقْبُرُونِي إِنَّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَبْشِرِي أُمَّ عَامِرِ
يُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهُ الضَّبْعُ، وَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَنَ شُهَدَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي قُبُورٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَوَارَى قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ فِي قَلِيبٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ:
آلَيْتُ لَا أَدْفِنُ قَتْلَاكُمُ ... فَدَخِّنُوا الْمَرْءَ وَسِرْبَالَهُ
وَجُمْلَةُ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ رُجُوعٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَهِيَ كَالنَّتِيجَةِ عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ. وَوَقَعَ قَوْلُهُ: إِذا شاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَماتَهُ وَجُمْلَةِ: أَنْشَرَهُ لِرَدِّ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ عَدَمَ التَّعْجِيلِ بِالْبَعْثِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَ (إِذَا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَفِعْلُ الْمُضِيِّ بَعْدَهَا مُؤَوَّلٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ حِينَ يَشَاءُ يُنْشِرُهُ، أَيْ يُنْشِرُهُ
حِينَ تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِإِنْشَارِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute