للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمرَان: ٣٠] .

وَالْإِحْضَارُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَاضِرًا.

وَمَعْنَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ حُصُولُ الْيَقِينِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بِهِ عِلْمٌ مِنْ حَقَائِقِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ عِلْمُهَا بِهَا أَشْتَاتًا: بَعْضُهُ مَعْلُومٌ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَبَعْضُهُ مَعْلُومٌ صُورَتُهُ مَجْهُولَةٌ عَوَاقِبُهُ، وَبَعْضُهُ مَغْفُولٌ عَنْهُ. فَنُزِّلَ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا لِلنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَأَثْبَتَ الْعِلْمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِلْمَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَيَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ مِمَّا يُحَقِّرُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَيَتَذَكَّرُ مَا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ، وَتَذَكُّرُ الْمَنْسِيِّ وَالْمَغْفُولِ عَنْهُ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ.

وَمَا أَحْضَرَتْهُ هُوَ مَا أَسْلَفَتْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ تَظْهَرُ آثَارُهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ يَوْمَئِذٍ عُبِّرَ عَنْ ظُهُورِ آثارها بالإحضار لشببه بِهِ كَمَا يُحْضَرُ الزَّادُ لِلْمُسَافِرِ فَفِي فِعْلِ:

أَحْضَرَتْ اسْتِعَارَةٌ. وَيُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْدَادِ

كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ مَتَى السَّاعَةُ:

«مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا»

. وَأُسْنِدَ الْإِحْضَارُ إِلَى النُّفُوسِ لِأَنَّهَا الْفَاعِلَةُ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يَظْهَرُ جَزَاؤُهَا يَوْمَئِذٍ فَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِ فِعْلِهِ، فَحَصَلَ هُنَا مَجَازَانِ: مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، وَمَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَحَقِيقَتُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَجُعِلَتْ مَعْرِفَةُ النُّفُوسِ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهَا حَاصِلَةً عِنْدَ حُصُولِ مَجْمُوعِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشُّرُوطُ مُقَارَنٌ لِحُصُولِ عِلْمِ النُّفُوسِ بِأَعْمَالِهَا وَهِيَ الْأَحْوَالُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَخِيرًا، وَبَعْضَ الْأَحْوَالِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ بِقَلِيلٍ وَهِيَ الْأَحْوَالُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا. فَنَزَلَ الْقَرِيبُ مَنْزِلَةَ الْمُقَارَنِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْجَمِيعُ شُرُوطًا ل إِذَا