فَأَمَّا الْحِفْظُ: فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ. وَالْحَفِيظُ: الرَّقِيبُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: ٦] .
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ غَيْرُ اسْتِعْمَالِ الْحِفْظِ الْمُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْد: ١١] . فَالْحِفْظُ بِهَذَا الْإِطْلَاق يجمع
مَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَا يُوكل إِلَى الْحَفِيظِ، وَالْأَمَانَةِ عَلَى مَا يُوكَلُ إِلَيْهِ.
وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الرِّقَابَةِ وَالسُّلْطَةِ.
وَأَمَّا وَصْفُ الْكَرَمِ فَهُوَ النَّفَاسَةُ فِي النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩] .
فَالْكَرَمُ صِفَتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ الْجَامِعَةُ لِلْكَمَالِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا صِفَةُ الْكِتَابَةِ فَمُرَادٌ بِهَا ضَبْطُ مَا وُكِّلُوا عَلَى حِفْظِهِ ضَبْطًا لَا يَتَعَرَّضُ لِلنِّسْيَانِ وَلَا لِلْإِجْحَافِ وَلَا لِلزِّيَادَةِ، فَالْكِتَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْكِتَابَةِ بِمَعْنَى الْخَطِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ مُنَاسِبَةٍ لِأُمُورِ الْغَيْبِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ بِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فَهُوَ الْإِحَاطَةُ بِمَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ وَمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِنْ تَفْكِيرٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ عَمَلُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ الْهَمُّ.
وَمَا تَفْعَلُونَ يَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَطَرِيقُ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ بِأَعْمَالِ النَّاسِ مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ.
وَدَخَلَ فِي مَا تَفْعَلُونَ: الْخَوَاطِرُ الْقَلْبِيَّةُ لِأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ أَيِ الْعَقْلُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُعْمِلُ عَقْلَهُ وَيَعْزِمُ وَيَتَرَدَّدُ، وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ إِطْلَاقُ مَادَّةِ الْفِعْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَ هِيَ عِمَادُ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فِي كُلِّ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلٍ لِلْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْوُلَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ حَافِظُونَ لِمَصَالِحِ مَا اسْتُحْفِظُوا عِلْيَهِ وَأَوَّلُ الْحِفْظِ الْأَمَانَةُ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ.
فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنَ الْكَرم وَهُوَ زكاء الْفِطْرَةِ، أَيْ طَهَارَةُ النَّفْسِ.