للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي الْآبَاءِ دَوَامُ الِاسْتِقَامَةِ فِي النَّسْلِ، لِأَنَّ النَّسْلَ مُنْسَلٌّ مِنْ ذَوَاتِ الْأُصُولِ فَهُوَ يَنْقُلُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْخُلُقِيَّةِ وَالْخَلْقِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّسْلُ مُنْسَلًّا مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَانَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ مُحَصِّلًا عَلَى مَجْمُوعٍ مِنَ الْحَالَتَيْنِ فَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَالَتَانِ أَوْ تَقَارَبَتَا جَاءَ النَّسْلُ عَلَى أَحْوَالٍ مُسَاوِيَةِ الْمَظَاهِرِ لِأَحْوَالِ سَلَفِهِ، قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَكْسِهِ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: ٢٧] ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْبَشَرِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ صَلَاحٌ مَا نَقَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ.

ثُمَّ كَثُرَتِ الْعَائِلَةُ الْبَشَرِيَّةُ وَتَكَوَّنَتْ مِنْهَا الْقَبِيلَةُ فَتَكَاثَرَتْ وَنَشَأَ فِيهَا مَعَ الزَّمَانِ قَلِيلًا قَلِيلًا خَوَاطِرُ مُخْتَلِفَةٌ وَدَبَّتْ فِيهَا أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْوَالِ تَبَعًا لِاخْتِلَافٍ بَيْنَ حَالَيِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَجَاءَ النَّسْلُ عَلَى أَحْوَالٍ مُرَكَّبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِكُلٍّ مِنْ مُفْرَدِ حَالَتَيِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَبِذَلِكَ حَدَثَتْ أَمْزِجَةٌ جَدِيدَةٌ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ أَسْبَابُ الِانْحِطَاطِ الْأَرْبَعَةُ، وَصَارَتْ مُلَازِمَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْبَشَرِ بِحُكْمِ التَّنَاسُلِ وَالتَّلَقِّي، هُنَالِكَ جَاءَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَدْيِ الْبَشَرِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالتَّارِيخُ الدِّينِيُّ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] الْآيَةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الرُّسُلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ ابْتَدَأَهُمْ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْآيَاتِ بِنُوحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ آدَمَ وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ أَنَّ آدَمَ يَقُولُ لِلَّذِينَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ايتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَبِهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ خَطِيئَةَ قَابِيلَ لَيْسَتْ مُخَالَفَةَ شَرْعٍ مَشْرُوعٍ، وَأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا وَأَنَّهُ نَبِيءٌ صَالِحٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَا يُهَذِّبُ أَبْنَاءَهُ

وَيُعَلِّمُهُمْ بِالْجَزَاءِ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مَعَ تَحَقُّقِ وُجُودِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ بِالْمُشَاهَدَةِ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ كَوْنَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً دَامَ مُدَّةً ثُمَّ انْقَضَى، فَيَكُونُ مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَقْدِيرُهَا فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ مُفَرَّعًا عَلَى الْكَوْنِ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْبَاطِلِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ أَوَّلُ النَّبِيِّينَ الْمَبْعُوثِينَ نُوحًا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ لِإِصْلَاحِ الْخَلْقِ. وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ أَوَّلُهُمْ آدَمَ بُعِثَ لِبَنِيهِ لَمَّا قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُبْعَثْ بِشَرِيعَةٍ لِعَدَمِ الدَّوَاعِي إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرْشِدًا كَمَا يُرْشِدُ الْمُرَبِّي عَائِلَتَهُ.

وَالْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ هُنَا الرُّسُلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْإِرْسَالُ بِالشَّرَائِعِ مُتَوَغِّلٌ فِي الْقِدَمِ وَقَبْلَهُ ظُهُورُ الشَّرْطِ وَهُوَ أَصْلُ ظُهُورِ الْفَوَاحِشِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ أَصْلُ