فَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّبِيِّينَ) لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ الْمُلَقَّبُ بِالْعُرْفِيِّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَعَانِي.
وَالْبِشَارَةُ: الْإِعْلَامُ بِخَيْرٍ حَصَلَ أَوْ سَيَحْصُلُ، وَالنِّذَارَةُ بِكَسْرِ النُّونِ الْإِعْلَامُ بِشَرٍّ وَضُرٍّ حَصَلَ أَوْ سَيَحْصُلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ.
فَالرُّسُلُ هُمُ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ فَإِنَّ وَظِيفَتَهُمْ هِيَ ظُهُورُ صَلَاحِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا قُدْوَةً لَهُمْ، وَإِرْشَادُ أَهْلِهِمْ وَذَوِيِهِمْ وَمُرِيدِيهِمْ لِلِاسْتِقَامَةِ مَنْ دُونِ دَعْوَةٍ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ رِجَالٌ صَالِحُونَ، وَإِرْشَادُ مَنْ يَسْتَرْشِدُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَتَعْلِيمُ مَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِعِلْمِ الْخَيْرِ مِنَ الْأُمَّةِ.
ثُمَّ هُمْ قَدْ يَجِيئُونَ مُؤَيِّدِينَ لِشَرِيعَةٍ مَضَتْ كَمَجِيءِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَجِيءِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى لِتَأْيِيدِ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُمْ تَعُلُّقٌ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَجِيءِ خَالِدِ بْنِ سِنَان الْعَبْسِي نبيئا فِي عَبْسٍ مِنَ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ، الْإِنْزَالُ: حَقِيقَتُهُ تَدْلِيَةُ الْجِسْمِ مِنْ علو إِلَى أَسْفَل، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي وُصُولِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى مَرْتَبَةً إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَحْيَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَالٌّ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ الْخَلْقِ فَهُوَ وَارِدٌ لِلرُّسُلِ فِي جَانِبٍ لَهُ عُلُوُّ مَنْزِلَةٍ.
وَأَضَافَ مَعَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيئِينَ إِضَافَةً مُجْمَلَةً وَاخْتِيرَ لَفْظُ مَعَ دُونَ عَلَيْهِمْ لِيَصْلُحَ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنْهُمْ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، وَلِمَنْ جَاءَ مُؤَيِّدًا لِمَنْ قَبْلَهُ مِثْلِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى.
وَالْكِتَابُ هُوَ الْمَكْتُوبُ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِكِتَابَتِهَا لِدَوَامِ حِفْظِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ مُدَارَسَتِهَا، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَيْهَا قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً إِنْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ فِي وَقْتِ الْإِطْلَاقِ قَدْ كُتِبَتْ أَوْ كُتِبَ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: ١- ٢] عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ هُنَالِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَجَازًا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَمَا هُنَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ قَدْ نَزَلَتْ وَكُتِبَتْ وَكُتِبَ بَعْضُ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ أُرِيدَ بِهَا مُقَارَنَةُ الزَّمَانِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعِيَّةِ هِيَ الْمُقَارَنَةُ فِي الْمَكَانِ وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْمَعِيَّةِ هُنَا لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٢٠]
وَفِي الْحَدِيثِ «وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ»
. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ وَأَنْزَلَ مَعَ النَّبِيئِينَ الْكُتُبَ الَّتِي نَزَلَتْ كُلَّهَا