لَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ أُلْقُوا فِيهِ وعذبوا بِهِ وَيَكُونُ لَفْظُ أَصْحَابٍ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى مُجَرَّدِ الْمُقَارَنَةِ وَالْمُلَازَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: ٣٩] وَقد عَلِمْتَ آنِفًا تَعَيُّنَ تَأْوِيلِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ.
وَلَفْظُ أَصْحابُ يَعُمُّ الْآمِرِينَ بِجَعْلِ الْأُخْدُودِ وَالْمُبَاشِرِينَ لِحَفْرِهِ وَتَسْعِيرِهِ، وَالْقَائِمِينَ عَلَى إِلْقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ.
وَهَذِهِ قِصَّةٌ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي تَعْيِينِهَا وَفِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَفْتُونِينَ بِالْأُخْدُودِ قَوْمٌ اتَّبَعُوا النَّصْرَانِيَّةَ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ عَلَى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَذُكِرَتْ فِيهَا رِوَايَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَالزِّيَادَةِ، وَالتَّعْيِينِ وَأَصَحُّهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَلَيْسَ فِيمَا رُوِيَ
تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَهَا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَالتِّرْمِذِيُّ سَاقَ حَدِيثَهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ كَانَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَخَادِيدَ فِي ثَلَاثٍ من الْبِلَاد بِنَجْرَان، وَبِالشَّامِ، وَبِفَارِسَ، أما الَّذِي بِالشَّامِ فَ (انْطَانْيُوسُ) الرُّومِيُّ وَأَمَّا الَّذِي بِفَارِسَ فَهُوَ (بُخْتَنَصَّرَ) وَالَّذِي بِنَجْرَانَ فَيُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ وَلْنَذْكُرِ الْقِصَّةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ تُؤْخَذُ مِنْ «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» عَلَى أَنَّهَا جَرَتْ فِي نَجْرَانَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَإِنَّهُ كَانَ مَلِكٌ وَهُوَ ذُو نُوَاسٍ لَهُ كَاهِنٌ أَوْ سَاحِرٌ. وَكَانَ لِلسَّاحِرِ تِلْمِيذٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ وَكَانَ يَجِدُ فِي طَرِيقِهِ إِذَا مَشَى إِلَى الْكَاهِنِ صَوْمَعَةً فِيهَا رَاهِبٌ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ اسْمُهُ (فَيْمِيُونُ) بِفَاءٍ، فَتَحْتِيَّةٍ، فَمِيمٍ، فَتَحْتِيَّةٍ (وَضُبِطَ فِي الطبعة الأوروبية مِنْ «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» - الَّتِي يَلُوحُ أَنَّ أَصْلَهَا الْمَطْبُوعَةَ عَلَيْهِ أَصْلٌ صَحِيحٌ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَضَمٍّ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
وَوَقَعَ لِلطَّبَرِيِّ بِقَافٍ عِوَضَ الْفَاءِ. وَقَدْ يُحَرَّفُ فَيُقَالُ مَيْمُونٌ بِمِيمٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِتَحْتِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَصْلُهُ مِنْ غَسَّانَ مِنَ الشَّامِ ثُمَّ سَاحَ فَاسْتَقَرَّ بِنَجْرَانَ، وَكَانَ مُنْعَزِلًا عَنِ النَّاسِ مُخْتَفِيًا فِي صَوْمَعَتِهِ وَظَهَرَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي قومه كرامات. وَكَانَ كُلَّمَا ظَهَرَتْ لَهُ كَرَامَةٌ دَعَا مَنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَّبِعُوا النَّصْرَانِيَّةَ، فَكَثُرَ الْمُتَنَصِّرُونَ فِي نَجْرَانَ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ ذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute