لِلْمُسْلِمِينَ أُوقِظُوا أَنْ لَا يُزْهَوْا بِهَذَا الثَّنَاءِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَضَوْا حَقَّ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَعُقِّبَ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا عَسَى أَنْ يَعْتَرِضَهُمْ فِي طَرِيقِ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ اقْتِدَاءً بِصَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، فَكَمَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الضَّالُّونَ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَمِ حَرَّضَهُمْ هُنَا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهُدَى الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ وَعَكْسِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ تَطَاوُلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ وَمَا اشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ لِلْعَامِ الْقَابِلِ، وَيَكُونَ أَيْضًا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَة: ٢١٦] الْآيَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالشَّدَائِدِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ زِيَادَةً فِي الْمُنَاسَبَةِ.
وأَمْ فِي الْإِضْرَابِ كَبَلْ إِلَّا أَنَّ أَمْ تُؤْذِنُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ هُنَا تَقْرِيرٌ بِذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ إِنْ كَانَ حَاصِلًا أَيْ بَلْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا دُونَ بَلْوَى وَهُوَ حُسْبَانٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ.
وَحَسِبَ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْمَاضِي: فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَخَوَاتِ ظَنَّ، وَفِي مُضَارِعِهِ وَجْهَانِ كَسْرُ السِّينِ وَهُوَ أَجْوَدُ وَفَتْحُهَا وَهُوَ أَقْيَسُ وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَمَصْدَرُهُ الْحِسْبَانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسَابِ بِمَعْنَى الْعَدِّ فَاسْتُعْمِلَ فِي الظَّنِّ تَشْبِيهًا لِجَوَلَانِ النَّفْسِ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلْمِ مَا يَقَعُ بِجَوَلَانِ الْيَدِ فِي الْأَشْيَاءِ لِتَعْيِينِ عَدَدِهَا وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ فِعْلُ عَدَّ بِمَعْنَى ظَنَّ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَلَيْسَ فِيهِ الْتِفَات، وَجعل صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْتِفَاتًا بِنَاءً عَلَى تَقَدُّمِ قَوْلِهِ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢١٣] وَأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ أَمْ حَسِبُوا أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ الْحَاصِلِ بِأَمْ، صَارَ الْكَلَامُ افْتِتَاحًا مَحْضًا وَبِذَلِكَ يُتَأَكَّدُ اعْتِبَارُ الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، فَالِالْتِفَاتُ هُنَا غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَدُخُولُ الْجَنَّةِ هُنَا دُخُولُهَا بِدُونِ سَبْقِ عَنَاءٍ وَبَلْوَى، وَهُوَ دُخُولُ الَّذِينَ اسْتَوْفَوْا كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَحْسُوبٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ لَمْ تَأْتِهِ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ أَوْ أَتَتْهُ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمَ الضَّجَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute