وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ ضَبْطُهَا عَلَى إِرَادَةِ الْغَالِبِ أَوْ إِرَادَةِ عَامٍ بِعَيْنِهِ.
وَلَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا شَيْءٌ صَرِيحٌ يُرْوَى عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونُ أَرَادَ بِهِ تَعْيِينَهَا فِي خُصُوصِ السَّنَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ فَلَا نُطِيلُ بِهِ، وَقَدْ أَتَى ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهُ بِكَثِيرٍ.
وَحُفِظَتْ عَن الشَّيْخ مُحي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ ضَبَطَ تَعْيِينَهَا بِاخْتِلَافِ السِّنِينَ بِأَبْيَاتٍ ذَكَرَ فِي الْبَيْتِ الْأَخِيرِ مِنْهَا قَوْلَهُ:
وَضَابِطُهَا بِالْقَوْلِ لَيْلَةَ جُمْعَةٍ ... تُوَافِيكَ بَعْدَ النِّصْفِ فِي لَيْلَةِ وِتْرِ
حَفِظْنَاهَا عَنْ بَعْضِ مُعَلِّمِينَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا. وَجَرَّبْنَا عَلَامَةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي صَبِيحَتِهَا فَلَمْ تَتَخَلَّفْ.
وَأَصْلُ تَنَزَّلُ تَتَنَزَّلُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. وَظَاهِرٌ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ.
وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَجْلِ الْبَرَكَاتِ الَّتِي تَحُفُّهُمْ.
والرُّوحُ: هُوَ جِبْرِيلُ، أَيْ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي الْمَلَائِكَةِ.
وَمَعْنَى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَن هَذَا التنزل كَرَامَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَنْزَلَ لَهُمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمَاعَاتٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَفِيهِمْ أَشْرَفُهُمْ وَكَانَ نُزُولُ جِبْرِيلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهَا مِنَ الْفَضْلِ مِثْلَ الَّذِي حَصَلَ فِي مُمَاثَلَتِهَا الْأُولَى لَيْلَةَ نُزُولِهِ بِالْوَحْيِ فِي غَارِ حِرَاءٍ.
وَفِي هَذَا أَصْلٌ لِإِقَامَةِ الْمَوَاكِبِ لِإِحْيَاءِ ذِكْرَى أَيَّامِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي أَصْلِ تِلْكَ الذِّكْرَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْهُ مَوْكِبُ الْبَهْجَةِ بِتِذْكَارِهَا.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ تَنَزَّلُ إِمَّا بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، أَيْ يَتَنَزَّلُونَ بِسَبَبِ إِذْنِ رَبِّهِمْ لَهُمْ فِي النُّزُولِ فَالْإِذْنُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ أَيْ مُصَاحِبِينَ لِمَا أَذِنَ بِهِ رَبُّهُمْ، فَالْإِذْنُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ نَحْوِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١] .