للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنِ اتَّخَذُوا سَكَرًا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ، ثُمَّ إِنِ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ رَحْمَتَهُ بِالنَّاسِ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ فَجَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ آذَنَتْ بِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ وَصْفُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَنْفَعَةِ تَنْبِيهًا لَهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ إِلَّا مَحَاسِنَهَا فَيَكُونُ تَهْيِئَةً لَهُمْ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ:

إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَقَدَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ»

أَيِ ابْتَدَأَ يُهَيِّئُ تَحْرِيمَهَا يُقَالُ: تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِي كَذَا أَيْ عَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» : أَنَّهَا مُمَهِّدَةٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْبَتَاتِ وَلَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً بَلْ مُعَرِّضَةٌ أَيْ مُعَرِّضَةٌ بِالْكَفِّ عَنْ شُرْبِهَا تَنَزُّهًا. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَقَبْلَ آيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذَا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَسَخَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: ٤٣] ، وَنسخت آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَنُسِبَ لِابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ

وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَن بن زين بْنِ أَسْلَمَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ هَذِهِ ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُمْ نَازِلَةً بَعْدَ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى وَإِذْ كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهَا وُضِعَتْ هُنَا إِلْحَاقًا بِالْقَضَايَا الَّتِي حَكَى سُؤَالَهُمْ عَنْهَا. وَأَنَّ مَعْنَى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي تَعَاطِيهِمَا بِشُرْبِ أَحَدِهِمَا وَاللَّعِبِ بِالْآخَرِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ وَصَفَ الْإِثْمَ فِيهَا بِوَصْفٍ كَبِيرٍ فَلَا تَكُونُ آيَةُ سُورَةِ الْعُقُودِ إِلَّا مُؤَكِّدَةً لِلتَّحْرِيمِ وَنَصًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا فِي آيَتِنَا هَذِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَنَافِعِ مَا قَدْ يَتَأَوَّلُهُ الْمُتَأَوِّلُونَ بالعذر فِي شُرْبِهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ نَاسًا شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَصَلَّى رَجُلَانِ فَجَعَلَا يَهْجُرَانِ كَلَامًا لَا يُدْرَى مَا هُوَ، وَشَرِبَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ فَزِعًا وَرَفَعَ شَيْئًا كَانَ