وَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي شراب الْعِنَب النيء مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَالشَّرَابِ الْمَطْبُوخِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَةِ لَفَظُ الْخَمْرِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً فِي شَرَابِ الْعِنَبِ أَوْ فِي الْأَعَمِّ خِلَافٌ فِي التَّسْمِيَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْإِطْلَاقِ، فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْهُ كَيْفَ يَظُنُّ الْمُجْتَهِدُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّمُ خُصُوصَ شَرَابِ الْعِنَبِ وَيَتْرُكُ غَيْرَهُ مِمَّا يُسَاوِيهِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الصِّفَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ قَدْ سَوَّيْنَا فِيهَا جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ وَبَقِيَتْ لِلْخَمْرِ أَحْكَامٌ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ كَتَحْرِيمِ الْقَلِيلِ وَالْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى السُّكْرِ فَتِلْكَ هِيَ مَحَلُّ النَّظَرِ، قُلْنَا: هَذَا مُصَادَرَةٌ لِأَنَّنَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالشَّارِعِ أَنْ يُفَرِّقَ فِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ فِي الصِّفَاتِ، عَلَى أَنَّهُ
قَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» ثُبُوتًا لَا يَدَعُ لِلشَّكِّ فِي النُّفُوسِ مَجَالًا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ» رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ فِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» وَقَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» ، وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» ، وَقَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا نَجِدُ شَرَابَ الْعِنَبِ إِلَّا قَلِيلًا، وَعَامَّةُ شَرَابِنَا فَضِيخُ التَّمْرِ. كَمَا فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» .
وَأَمَّا التَّوَسُّعُ فِي الْخَمْرِ بَعْدَ الطَّبْخِ، فَهُوَ تَشْوِيهٌ لِلْفِقْهِ وَلَطْخٌ، وَمَاذَا يُفِيدُ الطَّبْخُ إِنْ كَانَ الْإِسْكَارُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا.
وَصْفُ اللَّهِ الْخَمْرَ بِأَنَّ فِيهَا إِثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ. وَالْإِثْمُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ بِفِعْلِ مَا فِيهِ فَسَادٌ وَلَا يُرْضِي اللَّهَ، وَأَشَارَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ فِي اشْتِقَاقِ الْإِثْمِ مَعْنَى الْإِبْطَاءِ عَنِ الْخَيْرِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: الْإِثْمُ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّمِّ الْوَارِدِ فِي الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْإِثْمَ ضِدُّ الثَّوَابِ، وَظَاهِرُ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْإِثْمَ هُوَ الْفِعْلُ الْمَذْمُومُ فِي
الشَّرْعِ، فَهُوَ ضِدُّ الْقُرْبَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أَنَّهُمَا يَتَسَبَّبُ مِنْهُمَا مَا هُوَ إِثْمٌ فِي حَالِ الْعَرْبَدَةِ وَحَالِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ مِنَ التَّشَاجُرِ.
وَإِطْلَاقُ الْكَبِيرِ عَلَى الْإِثْمِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَجْسَامِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَبِيرِ: الشَّدِيدُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجِيءَ بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ تَعَلُّقِ الْإِثْمِ وَالْمَنْفَعَةِ بِهِمَا لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute