مَقَاصِدِهِمْ، وَفِي هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يُعْرِضَ النَّاسُ عَنِ النَّظَرِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى اتِّقَاءً لِأَلْسِنَةِ السُّوءِ، وَتُهْمَةِ الظَّنِّ بِالْإِثْمِ فَلَوْ تَمَالَأَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وِقَايَةً لِأَعْرَاضِهِمْ لَضَاعَتِ الْيَتَامَى، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ دَلَائِلَ وَوَرَاءَ الْمُتَصَرِّفِينَ عَدَالَةَ الْقُضَاةِ وَوُلَاةَ الْأُمُورِ يُجَازُونَ الْمُصْلِحَ بِالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ الْعَلَنِ وَيُجَازُونَ الْمُفْسِدَ بِالْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَتَامَى وبالتغريم بِمَا أَفَاتَهُ بِدُونِ نَظَرٍ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُصْلِحِ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ لَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» قَائِلًا «وَلِلْفَصْلِ» وَقَالَ فِي «الشَّرْحِ» : «وَأَشَرْتُ بِذِكْرِ الْفَصْلِ إِلَى دُخُولِهَا عَلَى ثَانِي الْمُتَضَادَّيْنِ نَحْوَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وحَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ
[آل عمرَان: ١٧٩] اهـ وَهُوَ مَعْنًى رَشِيقٌ لَا غِنَى عَنْ إِثْبَاتِهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَجعله وَجها ثَانِيًا فَقَالَ: «أَوْ أَتَأْتُونَ أَنْتُمْ مِنْ بَيْنِ مَنْ عَدَاكُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ الذُّكْرَانَ يَعْنِي أَنَّكُمْ يَا قَوْمَ لُوطٍ وَحْدَكُمْ مُخْتَصُّونَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ» اهـ فَجَعَلَ مَعْنَى (مِنْ) مَعْنَى مِنْ بَيْنَ، وَهُوَ لَا يَتَقَوَّمُ إِلَّا عَلَى إِثْبَاتِ مَعْنَى الْفَصْلِ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ معنى من الِابْتِلَاء وَمعنى الْبَدَلِيَّةِ حِينَ لَا يَصْلُحُ مُتَعَلِّقُ الْمَجْرُورِ لِمَعْنَى الِابْتِدَائِيَّةِ الْمَحْضِ وَلَا لِمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ الْمَحْضِ فَحَدَثَ مَعْنًى وَسَطٌ، وَبَحَثَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ الْفَصْلَ حَاصِلٌ مِنْ فِعْلِ يَمِيزَ وَمِنْ فِعْلِ يَعْلَمُ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ مَنْ لِلِابْتِدَاءِ أَوْ بِمَعْنَى عَنْ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ تَذْيِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالصُّعُوبَةُ الشَّدِيدَةُ أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَلَّفَكُمْ مَا فِيهِ الْعَنَتُ وَهُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْكُمْ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى فَتَجِدُوا ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْكُمْ وَعَنَتًا، لِأَنَّ تَجَنُّبَ الْمَرْءِ مُخَالَطَةَ أَقَارِبِهِ مِنْ إِخْوَةٍ وَأَبْنَاءِ عَمٍّ وَرُؤْيَتَهُ إِيَّاهُمْ مَضْيَعَةُ أُمُورِهِمْ لَا يَحْفُلُ بِهِمْ أَحَدٌ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ فِي الْجِبِلَّةِ وَهُمْ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَذَرًا وَتَنَزُّهًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا يَبْتَدِئُ الْمَرْءُ فِعْلَهُ يَسْتَطِيعُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ لِإِغْنَاءِ مَا بَعْدَهُ عَنْهُ، وَهَذَا حَذْفٌ شَائِعٌ فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ فَلَا يَكَادُونَ يَذْكُرُونَهُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٠] .
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَا اقْتَضَاهُ شَرْطُ (لَوْ) مِنَ الْإِمْكَانِ وَامْتِنَاعِ الْوُقُوعِ أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ قَادِرٌ فَلَوْ شَاءَ لَكَلَّفَكُمُ الْعَنَتَ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا فَلِذَا لم يلكفكموه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute