للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَشْبِيهُ مَا هُوَ مَطْلُوبُ الْوُقُوعِ بِمَا هُوَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمَاضِي كَمَا فِي قَوْلِ النَّاسِ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوِ الْحَالِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٩٧] وَأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْمُطَلَّقَاتِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، إِذْ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ

هُنَا. وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِنَّ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَامٍّ مَخْصُوصٍ فِي هَذِهِ، بِمُتَّصِلٍ وَلَا بِمُنْفَصِلٍ، وَلَا مُرَادٍ بِهِ الْخُصُوصَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْجِنْسِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَهِيَ مُخَصَّصَةٌ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، فَأَخْرَجَتِ الْإِمَاءَ بِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجِنْسِ الْمُطَلَّقَاتِ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِغَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ، مِثْلِ الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي لَسْنَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ سِنَّ الْمَحِيضِ، وَالْآيِسَاتُ مِنَ الْمَحِيضِ، وَالْحَوَامِلُ، وَقَدْ بُيِّنَ حُكْمَهُنَّ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، إِلَّا أَنَّهَا يَخْرُجُ عَنْ دَلَالَتِهَا الْمُطَلَّقَاتُ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الْأَحْزَاب:

٤٩] فَهِيَ فِي ذَلِكَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِمُخَصَّصٍ مُنْفَصِلٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ بِمُخَصَّصَاتٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فِيمَا عَدَا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةٍ، أَيْ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لِتِلْكَ الْأَصْنَاف. وَإِنَّمَا لجأوا إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْمُخَصَّصَ الْمُنْفَصِلَ نَاسِخًا، وَشَرْطُ النَّسْخِ تَقَرُّرُ الْمَنْسُوخِ، وَلَمْ يَثْبُتْ وُقُوعُ الِاعْتِدَادِ فِي الْإِسْلَامِ بِالْإِقْرَاءِ لِكُلِّ الْمُطَلَّقَاتِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْمُخَصَّصِ الْمُنْفَصِلِ نَاسِخًا، أَصْلٌ غَيْرُ جَدِيرٍ بِالتَّأْصِيلِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ هُوَ وُرُودُهُ مُخْرَجًا مِنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِدَلِيلٍ، فَإِنَّ مَجِيءَ الْعُمُومَاتِ بَعْدَ الْخُصُوصَاتِ كَثِيرٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقَوْلُ بِنَسْخِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ وَلَا بِنَسْخِ الْخَاصِّ لِلْعَامِّ لِظُهُورِ سَبْقِهِ، وَالنَّاسِخُ لَا يَسْبِقُ وَبَعْدُ، فَمَهْمَا لَمْ يَقَعْ عَمَلٌ بِالْعُمُومِ فَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِنَسْخٍ.