وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِخْبَارٌ عَنِ انْتِفَاءِ إِبَاحَةِ الْكِتْمَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّ كِتْمَانَهُنَّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ التَّشْرِيعِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لَهُنَّ بِذَلِكَ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ هُوَ الدَّمُ وَمَعْنَاهُ كَتْمُ الْخَبَرِ عَنْهُ لَا كِتْمَانُ ذَاتِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: «كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا» أَيْ كَتَمْتُكَ حَالَ لَيْلٍ.
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ مَوْصُولٌ، فَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَهْدِ، أَي مَا خلاق مِنَ الْحَيْضِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْوَارِدَ فِي
الْقُرْآنِ عَقِبَ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ، قَدْ أَلْحَقُوهُ بِالْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَأَمَّا مَنْ يُقْصِرُ لَفْظَ الْعُمُومِ فِي مِثْلِهِ عَلَى خُصُوصِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ إِلْحَاقُ الْحَوَامِلِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ نِيطَ بِكِتْمَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ. وَهَذَا مَحْمَلُ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الْحَيْضُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ:
الْحَمْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَمْلَ لِيَلْحَقَ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ الْجَدِيدِ (أَيْ لِئَلَّا يَبْقَى بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَمُطَلِّقِهَا صِلَةٌ وَلَا تَنَازُعٌ فِي الْأَوْلَادِ) وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِيهِمْ، وَأَمَّا مَعَ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ كِتْمَانُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، وَإِذْ مَضَتْ مُدَّةُ الْأَقْرَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزَّوْجِ الْجَدِيدِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ التَّهْدِيدُ دُونَ التَّقْيِيدِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى التَّقْيِيدِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّهْدِيدِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِ نَفْيِ الْحَمْلِ بِكَوْنِهِنَّ مُؤْمِنَاتٍ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْكَوَافِرَ لَا يَمْتَثِلْنَ لِحُكْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْإِسْلَامِيِّ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِنْ كَتَمْنَ فَهُنَّ لَا يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَاتِ هَذَا الْكِتْمَانُ.
وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِإِنْ، لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَقْصِدٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الشَّرْطِ فَيُؤْتَى بِإِذَا، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَفْرُوضًا، فَرْضًا لَا قَصْدَ لِتَحْقِيقِهِ وَلَا لِعَدَمِهِ جِيءَ بِإِنْ. وَلَيْسَ لَإِنْ هُنَا، شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الشَّكِّ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ، وَلَا تَنْزِيلَ إِيمَانِهِنَّ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ، خِلَافًا لِمَا قَرَّرَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute