لَا يَقَعُ
طَلَاقًا بِالْمَرَّةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ الطَّلَاقَ الْمُفَرِّقَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْمُوعَ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوِ احْتَجَّ لَهُمَا بِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ لَكَانَ قَرِيبًا، لَوْلَا أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَعْتَرِي الْفُسُوخَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَاذٌّ وَبَاطِلٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، وَكَيْفَ لَا يَقَعُ طَلَاقًا وَفِيهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ.
وَذَهَبَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَابْنُ دِينَارٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْبِكْرِ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ يَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِخِلَاف طَلَاق بالمبني بِهَا وَكَأَنَّ وَجْهَ قَوْلِهِمْ فِيهِ: وَأَن مَعْنَى الثَّلَاثِ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ تُبِينُهَا الْوَاحِدَةُ.
وَوَصْفُ زَوْجاً غَيْرَهُ تَحْذِيرٌ لِلْأَزْوَاجِ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ بِذِكْرِ الْمُغَايِرَةِ يَتَذَكَّرُ أَنَّ زَوْجَتَهُ سَتَصِيرُ لِغَيْرِهِ كَحَدِيثِ الْوَاعِظِ الَّذِي اتعظ بقول الشَّاعِرِ:
الْيَوْمَ عِنْدَكَ دَلُّهَا وَحَدِيثُهَا ... وَغَدًا لِغَيْرِكَ زَنْدُهَا وَالْمِعْصَمُ
وَأَسْنَدَ الرَّجْعَةَ إِلَى الْمُتَفَارِقَيْنِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ عَلَّقَ ذَلِكَ بقوله: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ أَنْ يَسِيرَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي إِعَادَةِ الْخُصُومَاتِ.
وحُدُودَ اللَّهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَشَرَائِعُهُ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَتَجَاوَزُهَا فَكَأَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَهَا. وَحَقِيقَةُ الْحُدُودِ هِيَ الْفَوَاصِلُ بَيْنَ الْأَرَضِينَ وَنَحْوِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩] وَالْإِقَامَةُ اسْتِعَارَةٌ لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحُدُودِ إِلَى الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِمْ: نَقَضَ فُلَانٌ غَزْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها فَالْبَيَانُ صَالِحٌ لِمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّاظِرِينَ.
وَالْمرَاد ب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْأَحْكَامَ فَهْمًا يُهَيِئُهُمْ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَبِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا، وَلَا يَتَحَيَّلُونَ فِي فَهْمِهَا.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَةُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَة: ٢٢٩] الْمُتَقَدّمَة آنِفا.
ووَ تِلْكَ