للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجُمْلَةُ يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّشْرِيعُ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِلْوَالِدَاتِ وَالْإِيجَابِ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا فَإِنَّ الضَّمِيرَ شَامِلٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ كَمَا يَأْتِي، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِيجَابِ إِرْضَاعِ الْوَلَدِ عَلَى أُمِّهِ، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطَّلَاق:

٦] وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ أَجْرُ الرَّضَاعَةِ، وَالزَّوْجَةُ فِي الْعِصْمَةِ لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَكِسْوَةٌ لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ، بَلْ لِأَجْلِ الْعِصْمَةِ.

وَقَوْلُهُ: أَوْلادَهُنَّ صَرَّحَ بِالْمَفْعُولِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، إِيمَاءً إِلَى أَحَقِّيَّةِ الْوَالِدَاتِ بِذَلِكَ وَإِلَى تَرْغِيبِهِنَّ فِيهِ لِأَنَّ فِي قَوْله: أَوْلادَهُنَّ تذكيرا لَهُنَّ بِدَاعِي الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ- لَيْسَتِ الْآيَةُ وَارِدَةً إِلَّا لِبَيَانِ إِرْضَاعِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْلَادَهُنَّ، فَإِذَا رَامَتِ الْمُطَلَّقَةُ إِرْضَاعَ وَلَدِهَا فَهِيَ أَوْلَى بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَمْ طَلَبَتْ أَجْرَ مِثْلِهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَبَ إِذَا وَجَدَ مَنْ تُرْضِعَ لَهُ غَيْرَ الْأُمِّ بِدُونِ أَجْرٍ وَبِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْوَالِدَاتُ عَلَى الْعُمُومِ، سَوَاءٌ كُنَّ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَاقِ

كَمَا فِي الْقُرْطُبِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفُرْسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» أَنَّ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ومحمول عَلَى عُمُومِهِ فِي ذَاتِ الزَّوْجِ وَفِي الْمُطَلَّقَةِ مَعَ عُسْرِ الْأَبِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ: يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لِبَعْضِ الْوَالِدَاتِ، وَالْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّخْيِيرِ لِبَعْضِهِنَّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي هَذَا اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ مُطْلَقُ الطَّلَبِ وَلَا دَاعِي إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ إِرْضَاعِ الْأُمِّ وَلَدَهَا فِي الْعِصْمَةِ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْوَالِدَاتِ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ لَهُنَّ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْأَصَالَةِ.

وَالْحَوْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَامُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَحَوُّلِ دَوْرَةِ الْقَمَرِ أَوِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهِ مِنْ مَبْدَأٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّمْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، فَتِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي مَا بَيْنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَرْجَعِ تُسَمَّى حَوْلًا.