للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ عَنِ الْإِرْضَاعِ، لِأَنَّهُ فُصِلَ عَنْ ثَدْيِ مُرْضِعِهِ. وَعَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ تَراضٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَرَادَا أَيْ إِرَادَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّرَاضِي، إِذْ قَدْ تَكُونُ إِرَادَتُهُمَا صُورِيَّةً أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُرْغَمًا عَلَى الْإِرَادَةِ، بِخَوْفٍ أَوِ اضْطِرَارٍ.

وَقَوْلُهُ: وَتَشاوُرٍ هُوَ مَصْدَرُ شَاوَرَ إِذَا طَلَبَ الْمَشُورَةَ. وَالْمَشُورَةُ قِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَشَاوِرِينَ يُشِيرُ بِمَا يَرَاهُ نَافِعًا فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُسْتَشِيرُ لِمَنْ يَسْتَشِيرُهُ: بِمَاذَا تُشِيرُ عَلَيَّ كَأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ يُشِيرُ لِلْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ النَّفْعُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، لِأَنَّ النَّاصِحَ الْمُدَبِّرَ كَالَّذِي يُشِيرُ إِلَى الصَّوَابِ وَيُعِينُهُ لَهُ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ، ثُمَّ عُدِّيَ بِعَلَى لَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّدْبِيرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الْعَسَلَ إِذا استخرجه، وأيا مَا كَانَ اشْتِقَاقُهَا فَمَعْنَاهَا إِبْدَاءُ الرَّأْيِ فِي عَمَلٍ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ مَنْ يُشَاوِرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩] ، وَعَطَفَ التَّشَاوُرَ عَلَى التَّرَاضِي تَعْلِيما للزوجين شؤون تَدْبِيرِ الْعَائِلَةِ، فَإِنَّ التَّشَاوُرَ يُظْهِرُ الصَّوَابَ وَيَحْصُلُ بِهِ التَّرَاضِي.

وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ حَقَّ إِرْضَاعِ الْحَوْلَيْنِ مُرَاعًى فِيهِ حَقُّ الْأَبَوَيْنِ وَحَقُّ الرَّضِيعِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ الرُّضَعَاءِ جَعَلَ

اخْتِلَافَ الْأَبَوَيْنِ دَلِيلًا عَلَى تَوَقُّعِ حَاجَةِ الطِّفْلِ إِلَى زِيَادَةِ الرَّضَاعِ، فَأَعْمَلَ قَوْلَ طَالِبِ الزِّيَادَةِ مِنْهُمَا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا تَشَاوَرَ الْأَبَوَانِ وَتَرَاضَيَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْفِصَالِ كَانَ تَرَاضِيهُمَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا مِنْ حَالِ الرَّضِيعِ مَا يُغْنِيهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّمَالُؤُ عَلَى ضُرِّ الْوَلَدِ، وَلَا يُظَنُّ إِخْفَاءُ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ تَشَاوُرِهِمَا، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا حَالُ وَلَدِهِمَا.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ انْتِقَالٌ إِلَى حَالَةِ إِرْضَاعِ الطِّفْلِ غَيْرُ وَالِدَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْوَالِدَةِ إِرْضَاعُهُ، لِمَرَضِهَا، أَوْ تَزَوُّجِهَا أَوْ إِنْ أَبَتْ ذَلِكَ حَيْثُ يَجُوزُ لَهَا الْإِبَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الْإِرْضَاعَ لِأَوْلَادِكُمْ فَلَا إِثْمَ فِي ذَلِكَ.

وَالْمُخَاطَبُ بِأَرَدْتُمْ: الْأَبَوَانِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَبَوَيْنِ فِي الْأُمَّةِ وَلَيْسَ الْمُخَاطَبُ خُصُوصَ الرِّجَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا سَبَقَ وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِحَالَةِ تَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِ الْأُمِّ، وَبِحَالَةِ فَقْدِ الْأُمِّ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ:

فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنَّ حَالَةَ التَّرَاضِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا، لِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ مُؤْذِنٌ بِتَوَقُّعِهِ،