للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجَعَلَ الشَّرْعُ لِلْحَاكِمِ إِذَا أَبَى الزَّوْجُ الْفِرَاقَ وَلَحِقَ الزَّوْجَةَ الضُّرُّ مِنْ عِشْرَتِهِ، بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهِ، أَنْ يُطَّلِقَهَا عَلَيْهِ. فَالطَّلَاقُ فَسْخٌ لِعُقْدَةِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ فَسْخٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلِ اكْتُفِيَ بِرِضَا وَاحِدٍ: وَهُوَ الزَّوْجُ، تَسْهِيلًا لِلْفِرَاقِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِالْمَرْأَةِ مَمْنُوعًا إِذْ لَمْ تَقَعْ تَجْرِبَةُ الْأَخْلَاقِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِسَبَبٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ، كَيْفَ يَعْمِدُ رَاغِبٌ فِي امْرَأَةٍ، بَاذِلٌ لَهَا مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ التَّعَرُّفِ بِهَا، لَوْلَا أَنْ قَدْ عَلِمَ مِنْ شَأْنِهَا مَا أَزَالَ رَجَاءَهُ فِي مُعَاشَرَتِهَا، فَكَانَ التَّخَلُّصُ وَقْتَئِذٍ قَبْلَ التَّعَارُفِ، أَسْهَلَ مِنْهُ بَعْدَ التَّعَارُفِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مُضَارِعُ مَسَّ الْمُجَرَّدِ، وَقَرَأَ

حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، (تُمَاسُّوهُنَّ) - بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ مُضَارِعُ مَاسَّ لِأَنَّ كِلَا الزَّوْجَيْنِ يَمَسُّ الْآخَرَ.

وَقَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ الْآيَةَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَطْفُ التَّشْرِيعِ عَلَى التَّشْرِيعِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّحَادَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ غَيْرُ شَرْطٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمَعْمُولُ لِلْفِعْلِ الْمُقَيَّدِ بِالظَّرْفِ وَهُوَ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ مَتِّعُوا الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَجْعَلُ مُعَادَ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَذَلِكَ لِأَدِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَقًّا تُؤَكِّدُ الْوُجُوبَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، فَالْمُحْسِنُ بِمَعْنَى الْمُحْسِنِ إِلَى نَفْسِهِ بِإِبْعَادِهَا عَنِ الْكُفْرِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمُسَمَّى لَهَا مَهْرٌ وَاجِبَةً، وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِئَلَّا يَكُونَ عَقْدُ نِكَاحِهَا خَلِيًّا عَنْ عِوَضِ الْمَهْرِ.