مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى التَّقْصِيرِ، فَإِذَا سُجِّلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِ دَوَاعِيهِ كَانَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يُوصِي غَيْرَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ عَسِيتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي عَسَى إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْمُخَاطَبِ، وَكَأَنَّهُمْ قَصَدُوا مِنْ كَسْرِ السِّينِ التَّخْفِيفَ بِإِمَاتَةِ سُكُونِ الْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَاءَتْ وَاوُ الْعَطْفِ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ إِذْ كَانَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُفِيدُ إِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُمْ عَنْ كَلَامِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِمْ:
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُؤَدِّي مِثْلَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَأَرَادُوا تَأْكِيدَ رَغْبَتِهِمْ، فِي تَعْيِينِ مَلِكٍ يُدَبِّرُ أُمُورَ الْقِتَالِ، بِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ كُلَّ خَاطِرٍ يَخْطُرُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّثْبِيطِ عَنِ الْقِتَالِ، فَجَعَلُوا كَلَامَ نَبِيئِهِمْ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ مُعْتَرِضٍ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِمُ الَّذِي كَمَّلُوهُ، فَمَا يَحْصُلُ بِهِ جَوَابُهُمْ عَنْ شَكِّ نَبِيِّهِمْ فِي ثَبَاتِهِمْ، فَكَانَ نَظْمُ كَلَامِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمرَان: ١٢٢] ، وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا [إِبْرَاهِيم: ١٢] .
و (مَا) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَتَعَجُّبِيٌّ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّهِمْ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ سَبَبِهِ. وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ، ولَنا خَبَرُهُ، وَمَعْنَاهُ مَا حَصَلَ لَنَا
أَوْ مَا اسْتَقَرَّ لَنَا، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَنا لَامُ الِاخْتِصَاصِ و «أَن» حَرْفُ مَصْدَرٍ وَاسْتِقْبَالٍ، ونُقاتِلْ مَنْصُوبٌ بِأَنْ، وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْمَصْدَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَفِعْلِهَا إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَجْرُورًا بِحَرْفِ جَرٍّ مُقَدَّرٍ قَبْلَ أَنْ مُنَاسِبٍ لِتَعَلُّقِ (لَا نُقَاتِلَ) بِالْخَبَرِ مَا لَنَا فِي أَلَّا نُقَاتِلَ أَيِ انْتِفَاءِ قِتَالِنَا أَوْ مَا لَنَا لِأَلَّا نُقَاتِلَ أَيْ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ قِتَالِنَا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ سَبَبٌ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ، أَوْ سَبَبٌ لِأَجْلِ تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لَنا: بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا لَنَا لِتَرْكِنَا الْقِتَالَ.
وَمِثْلُ هَذَا النَّظْمِ يَجِيءُ بِأَشْكَالٍ خَمْسَةٍ: مِثْلَ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ:
١١] وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: ٢٢] مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: ١٥٤] فمالك وَالتَّلَدُّدَ حَوْلَ نَجْدٍ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: ٨٨] ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ حَالٍ، وَلَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَخْتَلِفُ وَمَآلُ الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute