للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَكَانَ أَصْلُهُ اخْتِبَارَ طَعْمِ الطَّعَامِ أَيْ مُلُوحَتِهِ أَوْ ضِدِّهَا، أَوْ حَلَاوَتِهِ أَوْ ضِدِّهَا، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ فَأَطْلَقَ عَلَى اخْتِبَارِ الْمَشْرُوبِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقَرِينَةِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيُّ وَقِيلَ الْعَرْجِيُّ:

فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا (١)

فَالْمَعْنَى لَمْ أَذُقْ. فَأَمَّا أَنْ يُطْلَقَ الطَّعْمُ عَلَى الشُّرْبِ أَيِ ابْتِلَاعِ الْمَاءِ فَلَا، لِأَنَّ الطَّعْمَ الْأَكْلُ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ مَنْفِيًّا، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الذَّوْقِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عَيَّرُوا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِخُرُوجِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَيْهِ فَقَالَ «أَطْعِمُونِي مَاءً» إِذْ لَمْ يُعْرَفُ فِي كَلَام الْعَرَب الْأَمر مِنَ الْإِطْعَامِ إِلَّا بِمَعْنَى الْأَكْلِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ الشَّرَابَ فَإِنَّمَا يَقُولُ اسْقُونِي لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ طَعِمَ بِمَعْنَى شَرِبَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى أَكَلَ (٢) .

وَالْغَرْفَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، الْمَرَّةُ مِنَ الْغَرْفِ وَهُوَ أَخْذُ الْمَاءِ بِالْيَدِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمَغْرُوفُ مِنَ الْمَاءِ.

وَوَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ: بِيَدِهِ مَعَ أَنَّ الْغَرْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَقْدِيرَ مِقْدَارِ الْمَاءِ الْمَشْرُوبِ، فَيَتَنَاوَلُهُ بَعْضُهُمْ كَرْهًا، فَرُبَّمَا زَادَ عَلَى الْمِقْدَارِ فَجُعِلَتِ الرُّخْصَةُ الْأَخْذَ بِالْيَدِ.

وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَشَرِبُوا مِنْهُ عَلَى قِلَّةِ صَبْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِمُزَاوَلَةِ الْحُرُوبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ صَرَّحُوا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ النَّهَرِ فَقَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ قَالُوهُ لَمَّا رَأَوْا جُنُودَ الْأَعْدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ قُوَّةَ الْعَدُوِّ، وَكَانُوا يُسِرُّونَ الْخَوْفَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْجَيْشَانِ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا كِتْمَانَ مَا بِهِمْ.

وَفِي الْآيَةِ انْتِقَالٌ بَدِيعٌ إِلَى ذِكْرِ جُنْدِ جَالُوتَ وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ، وَهُوَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ جُلْيَاتٍ كَانَ طُولُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا، وَكَانَ مُسَلَّحًا مُدَرَّعًا، وَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَارِزَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِلصَّفِّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ مبارزته وعيرهم بجنبهم.


(١) هُوَ شَاعِر جاهلي قتل يَوْم بدر والنقاخ بِضَم النُّون وبخاء مُعْجمَة هُوَ المَاء الصافي وَالْبرد قيل هُوَ النّوم وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ المَاء الْبَارِد وَالْخطاب لليلى بنت أبي مرّة بن عُرْوَة بن مَسْعُود.
(٢) لدلالته على الْهَلَع واضطراب الْفُؤَاد فيعتريه الْعَطش وَقد هجاه بَعضهم لذَلِك فَقَالَ:
بلّ المنابر من خوف وَمن وَهل ... واستطعم المَاء لما جدّ فِي الْهَرَب
فَأَشَارَ إِلَى هجائه بِأَنَّهُ طلب المَاء وَبِأَنَّهُ استطعمه أَي سَمَّاهُ طَعَاما.